كانت أمريكا للجميع …. كانت أمريكا فكرة ولم تكن جغرافيا!، كانت وهما، مجرد وهم لكل مهاجر ، إنها ملجأ ولم تكن وطنا هويتك ما شئت ولا أحد يمكنه أن يقول لك من أنت، فما دمت على هذه الأرض فإنها لك، وأنت منها.. الأمريكي منشغل بالعمل وكسب المزيد
والبحث عن الرفاه لا شيء يشغله، القنوات لا تحمل له غير برامج التسويق، وأحوال الطقس، وبرامج الترفيه... لا خوف من المستقبل ولا خوف من الجيران ولا خوف من مناصب الشغل والدخل الوفير .
ثم تغير كل شيء..
أتذكر اليوم الذي كان أستاذ الاقتصاد السياسي يتحدث، بعد أحداث سيبتمبر ٢٠٠١، عن انهيار العولمة والنظام العالمي الجديد، كان الرجل يتحدث، بخشوع وثقة، أن انهيار البرجين معناه انهيار ”العولمة“.
لم يكن يقرأ الواقع إلا بأدواته البدائية التي تجاوزها الواقع .. فقد كان انهيار البرجين يعني انهيار التاريخ القديم وبداية حقبة جديدة في تاريخ البشرية تحولت بعدها أمريكا إلى ”أمة“ قلقة، يسكنها الخوف، وهمها الأوحد هو مواجهة خطر وقوى ستتم صناعتها..
أتذكر اليوم الذي خرج فيه الفلسطينيون، يرقصون ويفرحون في الشوارع بسبب الأحداث، وخرج العراقيون في الشوارع يشمتون في الضربة التي وجهت لرمز أمريكا!، فرح العرب للحكمة الإلهية التي اقتضت أن تعاقب ”الشيطان“!
اعتبره الكثيرون عقابا ربانيا سيعيد أمريكا إلى حدودها وتتوقف عن التطاول!..
أتذكر كم كنت صامتا مشدوها أتابع الدخان والانهيارات والموت بالجملة!..
لا أحد كان يعرف ماذا يحدث بالذات؟!..
لكن كل شيء حدث كي يتغير وجه التاريخ..
الإسلام مرة أخرى يعود إلى الواجهة والشرق الأوسط! وجهان لعملة واحدة اسمها "الإرهاب"..
تقول الحكمة الطاوية، إذا أردت أن تقطع شيئا فدعه يكبر أولا، وإذا أردت أن تطوي شيئا فأطلقه أولا..
أمريكا الأمة
الأمريكي هو الأبيض أولا، ثم الزنجي ثانيا وما بينهما أعراق مهاجرة، صار المهاجر هو صاحب اللكنة صاحب الثقافة المختلفة، صارت هويتك ملامحك ، وصار العربي شرق -أوسطي والشرق أوسطي مسلم والمسلم إرهابي والآلة الإعلامية منشغلة بصناعة الصورة وتنميتها، الإرهابي مسلم وكل إرهابي مسلم وإن لم يكن كل مسلم إرهابي لا مجال لتصحيح الصورة ملايين الصور والأخبار تملأ الفضاء العام مجاهدون، هناك قتلة هناك كارهون يتوعدون السلام والأمن الأمريكي في كل مكان على كل أمريكي أن يكون حذرا، فالإرهابيون الحقيقيون بينهم، وعلى الجميع أن يبحث عنهم!..
يحلو للإعلام الأمريكي أن يسلط الضوء علي اللافتات التي تحرض علي معاداة أمريكا، من المحيط إلى أقصى خارطة إسلامية على الأرض انتفاضات للرسوم المسيئة في أوروبا شبكات إرهابية يتم تفكيكها، لا حديث في العالم، بعد انهيار جدار برلين سوى عن الإرهاب ”الإسلامي“.
في المنافي تكتشف أنك الصورة المظلمة لبلد جئت منه، تجتهد في التخلص من الكثير من الشوائب التي تراها غير صالحة لك، لكنك تجد نفسك عنوانا لثقافة صناع الإرهاب تكتب …. وتشرح …..وتحاول …..وتصرخ، لكنك تحمل تهمة أبدية أنت ما أريد لك أن تكون ولا شيء آخر غير أن تكون ”آخر“ الخير والسلام أنت مرادف للدمار مهما حاولت، فلا أحد يحتاج لسماعك لا أحد على استعداد كي يحسن صورتك
كن ما شئت، فإن في عروقك تجري بها دماء ملوثة بالحقد على الغرب، أنت دخيل مهاجر عدو، يد أبناء جلدتك ملوثة بدماء الأبرياء!..
من أنت؟ لا شيء سوى سلالة الشر والإرهاب.
تزداد هجرة العرب إلى أمريكا وتتسع قاعدة الجالية التي تُدعم من الجمعيات الإسلامية يرخص لها لإقامة ”بيوت الله“ يزداد العربي المسلم تشبثا بماضيه مادام أنه فقد الحاضر، فقد الزمن والمكان، تُفتعل الصراعات التي تنتهي بالمحاكم تتزايد الأحقاد وتخلق سياقات محكمة الصنع والضبط لإنتاج ”كيتوهات“ عربية تعيش القلق والاكتئاب وتزداد انغلاقا على نفسها وباسم الحرية …والعدالة …والديمقراطية، ومثلما تشاهد "الهيب هوب" ترى ”الإسلام الإيديولوجي“، لحى وسراويل قصيرة وزوجات منقبات وآيات قرآنية على الزجاج الخلفي للسيارات إنه التحدي والمجاهدة في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الحق.
محاولات تدجين الواقع البحث عن تقنيات لإبلاغ الآخر ”إننا الحق“ و ”إننا هنا“ تلك هي الهوية!، بينما ”آخرنا“ يبحث عن ”الصورة“ كي يضخمها ويزيد من تعميق النمطية التي يريدها!..
صرت عربيا مسلما على مقاس الصورة التي أريدت لي!..
لم تعد أمريكا للجميع .. أمريكا للأمريكيين فقط للبيض للمسيحيين فقط للذين لا يلحنون ولا لكنة لهم للذين لهم أسماء لا حروف فيها خارج الأبجدية الإنجليزية، ثم نقذف خارج السياق الهامش هو المصير الحتمي لحضورنا إنه المنفى المضاعف أن توجد خارج كل السياقات يعني أن لا أمل لك في أن تجد مكانا لك في أي جغرافيا يصبح همك الأوحد هو أن تثبت براءتك .
صار الأصل هو أن تحمل تهمتك ”الإرهابية“ وعليك أن تتخلص منها ما تبقى من حياتك هو زمن للبرهنة على حسن سلوكك لا مجال للخطأ
لا مساحة للحرية التي جئت من أجلها، فالإرهابي ليس من يلبس الجلباب ويعفو عن اللحي فقط إنما الأخطر هم المتعلمون أولئك الذين ”يتظاهرون“ بالاندماج فساحات المعارك ملأى ”بالمجاهدين“ الآتين من أوروبا وأمريكا ملأى، ليس فقط بالذين نشأوا في عائلات مسلمة وإنما الذين التحقوا بالإسلام من أصول أمريكية!..
نجحت الآلة الإعلامية في إقناع الرأي العام بأن المشكلة في الإسلام كدين فهو الذي يغذي العقل الإرهابي!..
أخيرا لم تعد المشكلة في ”الأفراد“ وإنما في ”الفكر“ و ”الدين“ و ”الهوية“ الملوثة بعناصر الإرهاب!..، تحاول أن تبحث عن ”التعدد“ و ”الاختلاف“ فتُذكر بألف ليلة وليلة، ثم تبحث عن الخطاب الزندقي، وتبحث عن الملاحدة، فتكتشف أن ذلك مجرد هامش في خطابك الثقافي، وليس ابن رشد، والخوارزمي، وابن سينا سوى استثناءات تدخل في باب المعرفة العالمة، وهي لا تنفع مع العامة!..
مَن مِن هؤلاء الذين ينعتونك ”بالشرق-أوسطي“، هل يعرف ”ديكارت“ أو ”هيجل“، بل وحتى ”بورس“ أو ”طورو“!؟..
من منهم يعرف أرسطو!؟ من منهم يميز بين “العربي“ و ”المسلم“، من منهم يميز حتى بين ”الشرق الأوسط-والمغرب العربي، والإسلام“، من منهم يميز بين الجغرافيا والتاريخ؟..
لم نعد أمام ”مأساة“ ”التشرقن“ فقط، وإنما أمام اختزال تراجيدي لتعدد كبير، في صورة لاتسمح لك بأن تصحح الخطأ المدمر، زمن ما بعد الكولونيالية، زمن نعيش فيه المنفى المضاعف حيث أرغمنا على فقدان الحلم في المستقبل، لا مكان للخيال اليوم نعيش اللحظة مثقلة بالاغتراب، ليس لأننا مهاجرون وإنما لأننا فقدنا الإرادة في صناعة مستقبلنا هنا، كما فعلها من سبقونا من المهاجرين البيض في السابق.
فأنا اليوم أحمل جواز سفري كمواطن أمريكي أقف أمام حرس الحدود فيسألونني بعد أن يفتشوا حقيبتي وجسدي وملابسي وأغراضي:
«ما هو وطنك الأصلي» ؟!..
أجيب بتلكؤ وارتباك.. لأني أعي جيدا أنني مجرد ”مجنس“ حامل لوثيقة تسمح لهم برصد تحركاتي وحين أقف أمام شرطي الحدود في وطني الأصلي يقول لي: «ما سبب الزيارة»؟!
كانت سذاجتي توحي لي أنني سأتخلص من الكثير من اللعنات حين سأصبح ”مواطنا أمريكيا“، لكنني اكتشفت أنني أضاعف المنافي
لا تفقد المكان فقط، وإنما تفقد الجواب على أسئلة لم تكن تخطر ببالك من قبل!، وعوضا أن تهتم بنحت الأسئلة، تجد نفسك ”مجيبا“ وعليك أن تحترف الجواب!..
جئت إلى هنا بحثا عن الأسئلة، لكن السياق انقلب ولم يعد يسمح لي بهذه الحرية لست في مقام السائل أنا ”متهم“ وينبغي أن أكون على استعداد للإجابة على ما سيطرح علي!، بدءا من طريقة نطق اسمي وانتهاء بتاريخ دخولي الأول إلى هذا البلد.
أمريكا بعد أحداث سيبتمبر عكس ما كان يقول أستاذ الاقتصاد السياسي الذي أشبعنا نظريات سميث وتايلور، هي ما أريد لها أن تكون تَذَكر المؤتمر الذي انعقد في بداية التسعينات في نهر السليكون، حيث تحدد مصير العالم التاريخ صناعة محكمة التخطيط اليوم الفقر صناعة الجغرافيات السياسية صناعة..
والدين هو المادة التي تسعف الصناع على نحت التمثال الذي يريدونه وعلى المهاجر أن يفقد عقله وتوازنه، وأن يظل ”مهاجرا“ تمتص دماؤه ويحيا في الهامش، يقتات من كل أنواع ”التطرف“ كي لا يتسلل إلي مركز النسيج المجتمعي الحاكم.
قديما قرأت نصا لديريدا كان يتحدث فيه عن التجربة الجديدة لعالم اليوم التي تقتضي أن تقتل العدو دون أن يموت، وأن تجعله يذوق هزيمته ويحياها بكل عنف دون أن تكون له القدرة على المقاومة ولا الاستسلام!..
هذا حالنا اليوم متحكم فينا إلى درجة كبرى يصعب فهمها نحيا على مشاعر التيه والاغتراب داخل أوطاننا وخارجها وكلما مررنا بعاصفة واجهتنا المراقبة بكل أشكالها وفي كل مرة تجد نفسك "غير أنت" فصار اللاستقرار هو مصيرنا الحتمي.
نجح الغرب في ”احتضان“ البذرو الأولى التي كان يعرف سلفا ثمارها ازدهرت ”مشاتل“ التطرف الديني، وصارت صناعة مزدهرة في أوروبا كما أمريكا، فبعد أن كان المسلم في (الغرب) أمريكيا أكثر انفتاحا وتحررا في السابق صار أكثر انغلاقا ورفضا للمجتمع والحضارة التي يحيا فيها يسخر قواه وطاقاته ومشاعره كلها من أجل أن يقاوم الاجتياح المهول ”للتغريب“ ولكنه يحاصر نفسه بالمزيد من الخيبات والتهميش، والإقصاء..
الى صديقتي فاتن … هل نفهم ماذا يحدث بالضبط ..؟!