حين يتأخر قطار «الإصلاح» كنت أشعر بالخوف والحزن، لكن حين يتغير منطق «مكافحة» الاصلاح ويحاول البعض ان يقنعنا بأننا لا نستحقه، وحين تستمر مسلسلات التجاوز والخطأ، ويبدع البعض في صناعة «الأزمات»، ويستمرئ آخرون مواصلة «العبث» بالنواميس الوطنية، ويصرون على البقاء في «الزمن» الذي خرج الناس لفك حصاره الذي طوقهم منذ عقود.. حين يحدث ذلك أضع يدي على قلبي.. وتنتابني موجة من الفزع والريبة.. لدرجة أنني لا أصدق ما يحدث.
منذ أعوام ونحن نصرخ، بعضنا يكتب في الصحافة وبعضنا يدبّ الصوت في الشارع، وفي الصالونات السياسية، والندوات العامة، حتى انبرى لساننا، محذرين من وصول الناس الى اليأس، ومن نفاد صبرهم، وفقدان ثقتهم بالجميع، ومن قساوة الظروف التي قد تدفعهم الى الكفر، بكل ما ألفناه من أدبيات وتراث، وبكل ما تربى عليه جيلنا من «أخلاقيات»، لا لأنهم لا يؤمنون بها، وإنما لأننا بما فعلناه بأنفسنا أوصلناهم الى الجدار.
قلنا عشرات المرات إن قطار الاصلاح اذا تباطأ وتأخر كثيراً، سيواجه على مسار آخر مواز قطار «نفاد الصبر»، هذا الذي يسير بسرعة جنونية، ودعونا مراراً الى ضرورة دفع القطار الأول بكل ما نملك من امكانيات وإرادات لكي نستدرك القطار الآخر، ونخفف من سرعته.. لكن يبدو ان اصواتنا ذهبت سدى، وأن آذان المسؤولين لم تلتقط ذلك، بحجة انه مجرد صراخ وسينتهي حين يتعب مطلقوه، والمستمعون له ايضاً.
جردة حسابات الاعوام الماضية تؤكد لنا – بدون أدنى شك – أن «حالة مجتمعنا» تراجعت وانحدرت نحو الاسوأ، وأن رهاناتنا على «ارضاء» الشارع وجموده، أو على «صور» الفوضى المخيفة فيما حولنا التي تردع الناس عن المطالبة بحقوقهم، لم تكن صحيحة، وبالتالي فمن واجبنا اليوم ان نراجع مواقفنا ومعادلاتنا السياسية، وان نفتح عيوننا بشكل افضل على ما يدور في مجتمعنا، وما يتغلغل داخله من احتقانات، وما يعكسه خطابه المعلن والصامت من مخاوف وتحذيرات، لكي لا نفاجأ بما لا يسعدنا، ولكي لا نقع في المصائد التي وقع فيها غيرنا.. وعندئذ لا ينفع «الفهم المتأخر» ولا الندم أيضاً.
إن ما وصل اليه مجتمعنا لم يكن مفاجئا إلا للذين ما زالوا مصرين على إنكار الحقيقة، فحين تموت «السياسة» تحضر الفوضى، وحين تنحدر قيم المجتمع بفعل ما طرأ من ضغوطات وإفساد للمجال العام، يتحول الناس الى مجموعات متناحرة تحركهم نوازع الانتقام من أنفسهم ومن الآخرين، وحين تسد أبواب الحوار ويتلاشى الأمل ويهيمن منطق «الاستهانة» والاستعلاء ويختلط «اللامشروع» بالمشروع، يفرز المجتمع أسوأ ما فيه، ويعبّر كل مواطن عما بداخله بطريقته الخاصة، ويحاول أن ينتزع حقوقه بيديه، تماما كما يحصل في العصور التي ضلت فيها المجتمعات عن ولادة فكرة الدولة والقانون وأخلاقيات العيش المشترك وقيم العدالة والحرية التي تجعل الجميع يشعرون بالأمن والاستقرار «والرضا» والقناعة.
نحن مقبلون على تحولات سياسية لها استحقاقاتها، سواء على صعيد الداخل وما يتعلق به من «أزمات» اقتصادية ومقررات مُرّة، أو من «صراعات» وانقسامات في مناطق النفوذ وخارجها، وعلى صعيد الخارج بما يحفل به الإقليم من «نذر» حرب قائمة وأخرى قادمة، ومن اشتباكات طائفية ومذهبية، ومن ترتيبات وخرائط جديدة يُعاد رسمها، وبالتالي فإن «الفاتورة» التي سندفعها ستكون باهظة، وهي تحتاج الى «جبهة» داخلية متماسكة ومؤمنة بما يستحق علينا وجاهزة لكي تدفعه.. واعتقد ان حالة مجتمعنا ليست كذلك؛ ما يعني أننا سنواجه «لحظات» صعبة يفترض أن نستبقها بعمل «جبّار» وجهود جدّية، تستهدف أول ما تستهدف تغيير المعادلات السياسية القائمة نحو معادلات صحيحة وصلبة تقنع الناس بأن مرحلة جديدة قد بدأت حقاً. هل ستبدأ حقا..؟ لا أدري.
بقي لدي رجاء واحد للمسؤولين : دعونا ننقذ بلدنا من هذا المجهول، دعونا نخرج من منطق الاستعلاء والاستهانة في التعامل مع الناس وقضاياهم ونجرب منطق «الفهم» والاستجابة.. دعونا نفتح الأبواب المشروعة أمام الناس ونخفف معاناتهم ونطمئنهم على مستقبلهم ونعيد إليهم الثقة بأنفسهم وبلدهم، لكي لا ندفعهم الى الدخول من أبواب غير مشروعة ومزدحمة بالألغام أيضاً.
(الدستور)