والذي فعلوه يداعب أحلام العاملين في المياه وفي الطاقة لما لهذه الأحلام من تأثير على معيشة الناس بل على تطور مجتمعاتهم ودولهم. وكان الفاعلون في الغرب حيث ابتدأ الحلم في الولايات المتحدة وتكرر فعلهم في الشرق حيث جمهورية الصين تتخطى المتوقع، ثم عادوا مؤخراً ليداعبوا أحلامنا من المملكة المتحدة وكرروا ذلك في مطلع الشهر الماضي حيث أنجز تآلف باحثين من شركة توكاماك للطاقة بالمملكة المتحدة ومن جامعة برنستون ومختبر أوك ريدج الوطني وكلاهما من الولايات المتحدة، ما يعزز أملنا في انتاج طاقة بالاندماج النووي. وكانت الطاقة المنتجة في كافة الحالات أكثر من الطاقة الداخلة لتسخين البلازما وإنتاج الطاقة. وهو ما يعني توليد طاقة بالاندماج النووي تكون في نهاية المطاف صالحة للاستعمال التجاري وبكلفة بسيطة للغاية.
والجديد الذي أطل علينا من المملكة المتحدة في الشهر الفائت هو اختراق تكنولوجي واضح في انتاج طاقة بالاندماج النووي كما فعلت مختبرات سابقة، منذ نوفمبر من العام الماضي، استمر لجزء يسير من الثانية وبكمية أكبر من تلك المستعملة في التفاعل، لكن باستعمال مفاعل مختلف، تفاحي الشكل أصغر بكثير من المفاعلات كعكية التكوين وكبيرة الحجم ومعقدة التشغيل التي استعملها السابقون لهذا الاختراق. طابت أحلامنا لسماع هذه الأنباء المفرحة حتى أننا طمعنا بالمزيد، وجاء المزيد قبل أسبوع من عمان حاضرة المملكة الأردنية الهاشمية بجواب موجز ج?اً لسؤال طرحه في محاضرة حاشدة بعاصمة الأردن، سؤال طرحه معالي الدكتور خالد طوقان رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية على مسامع المحاضر السيد سام آلتمان رجل الأعمال الأميركي ومؤسس شركة OpenAI للذكاء الاصطناعي، الذي أوحى بجوابه المختصر أن توظيف الذكاء الاصطناعي لتوليد الطاقة بالاندماج النووي يراود الأذهان. ويعطي جوابه هذا دفعة للأمل في تحقيق الحلم لتوليد الطاقة بالاندماج النووي سيما وأن رجل الأعمال هذا قد أسس أيضاً شركة للطاقة (بالاندماج النووي) هي شركة هيليون، وقال في جوابه المختصر أن شركته ستقوم بإجراء عرض عمله لإنتاج طاقة الاندماج النووي في العام القادم.
لم ينفِ السيد آلتمان ما ورد في سؤال الدكتور طوقان من احتمال توليد شركته الطاقة المنشودة تجارياً بحلول العام 2028. كان سؤال الدكتور واضحاً بقدر ما كان جواب رجل الأعمال (من خريجي جامعة ستانفورد الأميركية) مختصراً. وكنت في جميل الأحلام أعطي تاريخاً للانتاج التجاري بحلول العام 2050. ويقيني أن تحقق هذا الحلم سيفتح صفحة جديدة في تطور البشرية كما فعلت اختراعات توليد الطاقة منذ إحراق القش والأغصان باحتكاك الصوّان إلى توليدها بالانشطار النووي الذي أخذ انتشاره بالانحسار لما يلازمه من مخاطر بيئية شرسة. ولا تحمل تكنولوجيا الاندماج النووي مخاطر غير اعتيادية، وستكون الكلفة التشغيلية في متناول الفقراء ومحدودي الدخل، ويمكن تزويد سكان العالم بطاقة كهذه دون كبير عناء.
وسبق أن بينت أن الطاقة والمياه توأمان، وما دورة المياه على كوكبنا إلا النشاط المشترك لهذين التوأمين. فمن سقوط المياه يمكن توليد الطاقة، والمياه العذبة تتوفر لسكان الأرض من مياه الأمطار التي بدورها منتج من تبخير طاقة الشمس لمياه المحيطات وتتشكل السحب تسوقها طاقة الرياح إلى اليابسة لتسقط عليها وتجري بفعل طاقة الجاذبية إلى الأجسام المائية من حيث أتت. وتمكن الإنسان من اختراع التكنولوجيا التي تستولد المياه العذبة من تلك المالحة، وتكنولوجيا التناضح العكسي مثل على ذلك. إلا أن عملية التحلية تستهلك من الطاقة ما يجعل كلفة التشغيل باهظة ناهيك عن كلفة ضخ المياه المحلاة إلى حيث مناطق الاستهلاك. ولذلك فإن اختراع تكنولوجيا لتوليد الطاقة الرخيصة (وهي طاقة الاندماج النووي) يجعل من تكنولوجيا التحلية حلاً سحرياً لمشاكل نقص الموارد المائية في العديد من الدول النامية.
ويجدر بنا، والحال كما وصفنا، أن تفكر مليّاً قبل ولوج ميدان تحلية المياه في العقبة وضخها إلى مناطق الاستهلاك قبل توفر طاقة الاندماج النووي لأسواق العالم. وأرى أنه بالإمكان الاعتماد على المياه الجوفية العميقة الوفيرة جداً في طبقة الصخر الرملي تحت كافة الأراضي الأردنية إلى المدى الزمني الذي عنده تتوفر طاقة الاندماج النووي فنعتمد عليها لتحلية مياه البحر وضخها للاستهلاك. وبخلاف ذلك ستواجه مشروع الناقل «الوطني» للمياه مشكله، وهو علو كلفة المياه التي سينقلها من شاطئ البحر إلى مدن المملكة البعيدة والمرتفعة إلى مستويات لا يستطيع المستهلك تحملها، فنلجأ إلى دعم الاستهلاك وهو وصفة شائنة لاقتصاد يرنو إلى الإنفاق الرأسمالي من أجل النمو وتوفير فرص العمل للداخلين إلى سوقه.
وكمعنيين في القطاعين التوأمين نرتاح للحلم الجميل الذي يحمل إلينا مولد الطاقة الاندماجية، لكننا بالتأكيد لا تغرينا الراحة بل يستفزنا العمل الجاد لخدمة البلاد والعباد وتحقيق ما يستحقه الوطن وقائده من تقدم ونماء.
(الراي)