علي البتيري يؤرخ للنكسة في قصيدته (5 حزيران)
داود عمر داود
06-06-2023 11:58 AM
الاثنين، الخامس من شهر حزيران، من عام 1967، قبل 56 عاماً، يوم بدأت حرب ذلك العام. وقد أفاق الناس صباحاً على هدير صوت الإذاعي (أحمد سعيد)، في إذاعة (صوت العرب) القاهرية، وهو يقول (تجوع يا سمك المتوسط)، ويعلن كل عدة دقائق بياناً عسكرياً يحمل أعداد طائرات العدو الصهيوني التي تم إسقاطها. لكن الحقيقة كانت غير ما كان يقول، والنتيجة هزيمة نكراء سُميت (النكسة)، إحتل العدو إثرها الضفة الغربية، وهضبة الجولان، وشبه جزيرة سيناء. ويستذكر الشاعر الأستاذ (علي البتيري) تلك الأحداث شعراً في قصيدته (5 حزيران)، وكأنه يؤرخ لتفاصيلها، يوماً بيوم:
5 حزيران
***
في العام السابع والستينَ
من القرن الماضي
وعلى وجه التحديد ...
في الخامس من شهر حزيران
اغتالوا بين البحر وبين النهر فلسطين
واغتصبوا سيناء مع الجولان
فانتصر العدوان ...
في هجمة غدرٍ لم يشهدها
تاريخ بني الإنسان ...
فكيانٌ صهيونيٌّ في حجم الثعلب
استأسد في الميدان
فكبا للعرب المقهورين حصان
وأكلنا المقلب ...
وكأنَّ بني عدنان وغسان
وبني غفلان ...
في تلك الليلة لم يصحُ لهم فرسان
في الخامس من شهر حزيران
أحنى العربيُّ المذهولِ
لصاعقة الصدمةِ رأسه
ومضى يبحث في قاموس مصائبهِ
عن تسميةٍ في اللغة الأمِّ تخفّفُ
من وقعِ مصيبتهِ السوداءِ
فسماها النكسة ...
استبشر خيراً بمقاومةٍ
وبحرب استنزافٍ مرجوَّة
فدعا العربيُّ المحتاجُ لعزم أخيه
إلى صلة الرحم وتمتينِ أخوَّة
أعلن للعالم في مؤتمرٍ للقمَّة
عن لاءاتٍ للرفض ثلاثٍ
ومضى يبرقُ يرعدُ ليلطِّفَ في
منخفضِ الحالةِ جَوَّه
ما يؤخذُ بالقوَّة
لا يَرجعه أحدٌ إلا بالقوَّة.
****
وانتفض العربيُّ الغاضبُ
في العام الثالث والسبعينَ
من القرن الماضي وبشهر الصوم
فاستبشر بالنصر القوم
كاد النصرُ يكون حليفاً للأمَّة
كادت تنكشفُ الغُمَّة
لولا أمرٌ ما ...
لم يبصرهُ ولم يفهمهُ أحد
صادر للعربيِّ الحالم بالفرح القادم
فرحتهُ فرأيناهُ بذاكَ الحلمِ جَحَد
قلنا ستزول الغيمة ...
فانتصبت لتفاوضنا مع قاتلنا خيمة ..!!
هناك رسائل عديدة حاول الشاعر علي البتيري إيصالها للقارىء في قصيدته (5 حزيران) منها:-
1- (في تلك الليلة لم يصحو لهم فرسان):
يشير الشاعر في هذه الجملة، من قصيدته (5 حزيران) إلى حفلات الترفيه التي أقامها سلاح الجو المصري لطياريه، ليلة اندلاع الحرب، في القواعد الجوية، والتي بدأت مساء الأحد 4 حزيران وامتدت إلى فجر الاثنين 5 حزيران، 1967.
وما أن انتهت الحفلات، وخلد الطيارون إلى النوم، حتى بدأت الغارات الجوية الاسرائيلية على المطارات الحربية المصرية، الساعة الخامسة والنصف فجراً، فدمرتها وأخرجتها من الخدمة، ودمرت الطائرات المصرية المقاتلة الجاثمة على الأرض، في وقت كان فيه الطيارون نيام. وترتب على ذلك خسارة الحرب، قبل أن تبدأ.
ولذلك يلخص الشاعر ذلك المشهد بقوله: (في تلك الليلة لم يصحو لهم – للعرب - فرسان) فكان تعبيراً موفقاً عما حدث في تلك الليلة وذلك الفجر من يوم الاثنين الخامس من حزيران عام 1967.
2- النكبة ثم النكسة:
لقد سميت مأساة أهل فلسطين عام 1948 بـ (النكبة). وكان أول من إستخدم مصطلح (النكبة) هو المؤرِّخ والمفكر القومي العلماني قسطنطين زريق، الذي كان نائب رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، وذلك في كتابه الذي حمل عنوان (معنى النكبة)، والذي صدر عام 1948.
أما مصطلح (النكسة)، الذي كان يعني هزيمة حرب 1967، فيقال أن الكاتب الصحافي الشهير محمد حسنين هيكل هو عرّاب مصطلح (النكسة). وكان هيكل معروفاً بتأثيره السياسي الكبير، في حقبة حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وهو صاحب المقال الأسبوعي (بصراحة) الذي كانت تنشره آنذاك، كل يوم جمعة، جريدة (الأهرام) المصرية.
وقد عبر الشاعر البتيري عن هذا بقوله (ومضى يبحث في قاموس مصائبهِ، عن تسميةٍ في اللغة الأمِّ تخفّفُ، من وقعِ مصيبتهِ السوداءِ، فسماها النكسة)، وكأنه يقصد محمد حسنين هيكل بالاسم.
3- المقاومة وحرب الاستنزاف:
بعد هزيمة حرب عام 1967 نشطت المنظمات الفدائية الفلسطينية، وخاضت مصر، بذات الوقت، ما عُرف بـ (حرب الإستنزاف) مع العدو الاسرائيلي، عبر قناة السويس، وخط بارليف الحصين، الذي أقامه العدو على الجهة الشرقية من القناة.
وللعتبير عن استهانة الناس بما أسفرت عنه جهود المقاومة، وحرب الاستنزاف، قال الشاعر: (استبشر خيراً بمقاومةٍ، وبحرب استنزافٍ مرجوَّة)، وكلاهما لم يسفرا عن النتائج التي كانت الشعوب تتطلع إليها.
4- قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم عام 1967:
عُقدت القمة العربية الرابعة، في العاصمة السودانية الخرطوم، بعد 3 أشهر من هزيمة حرب 1967. وقد تضمن البيان الختامي للقمة اللاءات الثلاث المعروفة: (لا صلح ... لا أعتراف ... لا مفاوضات) مع إسرائيل. كما رفع الرئيس المصري جمال عبد الناصر شعار (ما أُخذ بالقوة لا يُستردُ إلا بالقوة).
وقد رسم الشاعر صورة شعرية بديعة عندما قال: (أُعلن للعالم في مؤتمرٍ للقمَّة ... عن لاءاتٍ للرفض ثلاثٍ، ومضى يبرقُ يرعدُ ليلطِّفَ في منخفضِ الحالةِ جَوَّه، ما يؤخذُ بالقوَّة، لا يَرجعه أحدٌ إلا بالقوَّة). لكن النتيجة أن بلع العرب كل لاءاتهم مع مرور الزمن، وفي مقدمتهم مصر ما بعد عبد الناصر!!!!
5- حرب 1973 وثغرة الدفرسوار:
ثم انتقل الشاعر في قصيدته للحديث عن حرب عام 1973، التي تزامنت مع حلول شهر رمضان المبارك. و(الغمة) التي يذكرها الشاعر هي بالطبع (ثغرة الدفرسوار)، قرب نهاية الحرب، حيث تمكنت قوات من جيش العدو من محاصرة الجيش المصري الثالث. وجرت عملية اختراق، عُرفت بـ (الثغرة)، التي استطاعت من خلالها القوة الاسرائيلية، بقيادة أرئيل شارون، التقدم بدباباتها إلى غربي قناة السويس، والتموضع، في منطقة الدفرسوار. وهكذا تحول نصر الجيش المصري الى شبه هزيمة، أضعفت موقفه في المفاوضات.
وقال الشاعر واصفاً التداعيات السلبية لما جرى: (وانتفض العربيُّ الغاضبُ ... فاستبشر بالنصر القومُ. كاد النصرُ يكون حليفاً للأمَّة، كادت تنكشفُ الغُمَّة، لولا أمرٌ ما. لم يبصرهُ ولم يفهمهُ أحد). وما لم يبصره أحد هو (الثغرة)، التي أضعفت موقف مصر، فكانت نتيجة الحرب نصراً بطعم الهزيمة.
6- مفاوضات الخيمة عند الكيلو 101:
بعد صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، في حرب 1973، عقد الجانبان، المصري والإسرائيلي، مفاوضات في خيمة عند الكيلو 101، على طريق السويس القاهرة، وكان الوفد العسكري المصري برئاسة الفريق (محمد عبد الغني الجمصي)، وترأس وفد العدو الجنرال أهارون ياريف. وكانت أبرز مواضيع النقاش، للأسف، طلب مصر تزويد جيشها الثالث المحاصر بالطعام.
وهنا عبّر الشاعر عن هذا الموقف المصري الضعيف بالقول: (صادر للعربيِّ الحالم بالفرح القادم، فرحتهُ فرأيناهُ بذاكَ الحلمِ جَحَد. قلنا ستزول الغيمة ... فانتصبت لتفاوضنا مع قاتلنا خيمة ..!!).
وختاماً، هناك قصائد كثيرة قيلت في (النكبة) وفي (النكسة) لكن الصور التي رسمها الشاعر المبدع علي البتيري في قصيدته (5 حزيران) كانت ملخصة ومعبرة عن الأحداث كما جرت فعلاً، وكأنه يؤرخ للواقع الأليم الذي عاصره هو وأبناء جيله.