«وأنت تعد فطورك فكر بغيرك لا تنس قوت الحمام.. وأنت تنام وتحصي الكواكب فكر بغيرك، ثمة من لم يجد حيزا للمنام».
ما أشبه الإسراف بالكفر، وما أشبه الخضوع للرغبات بالعبودية. كم يفزع التشاوف البوهيمي وكم تنفرك مشاهد المنافسة الاجتماعية واستعراض القدرات المالية، أما المستغرب في كل ذلك أن تكون على يقين بأن كل محاولات الاستعراض كما يقال في العامية « على خازوق»، ثم نتناسى أن للعالم وجها آخر موغلا في العوز قد نقدّم له أقل القليل لو حمدنا الله على النعم الكثيرة التي نتمتع بها وأمسكنا قليلا عن المباهاة الفارغة.
كانت أنامل الطفلة التي أمامي تقبض على بطاقة ملونة أخذت تلوح بها يمنة ويسرة، أنها ليست سوى دعوة لعيد ميلاد إحدى الصديقات في المدرسة. المكان: فندق من فئة الخمس نجوم، الحضور: بذخ واسراف لا طفولة بينهما.. كل ما حضر وكل ما كان لا يتناسب وبساطة الحدث, ولا تستوعب الطفولة فيه حجم هذا الإسراف. لم تكن الدعوة الى حفل عيد ميلاد طفلة في التاسعة من عمرها بقدر ما هي تعرية لآفة تجتاح بعض الآباء من استعراض باهت وممل شاهدناه من قبل، إنما يعكس ضعف الثقة الاجتماعية والنفسية، فلا يمكن للبذخ أن يكون وسيلة لإسعاد طفل بقدر ما هو فضح لأساليب استغلال هؤلاء الأطفال لثقافتنا التفاخريّة الخاصة.
لن نكون ضد الفرح, ولا ضد البهجة, وليس لأحدنا أن يملي على الآخر كيف يحتفل وعلى أية أنغام يطرب، لكنه الابتذال الذي تخنق فيه الطفولة وينبت منه جيل هشّ يترعرع على سرير النفاق الاجتماعي.
في بريدي الالكتروني رسالة فيها صور صادمة لعالم متناقض يترنح بين دفتي البذخ والحرمان؛ فبينما يعيش جزء من العالم ثراء فاحشا, تظهر شريحة أخرى أكبر تستوطن مستنقعات الفاقة والفقر تقتات الفتات وتنام بين مجموعة من الخردة.
واقع مرير ينعكس على مرآة لا مبالاتنا كل صباح.. ففي الوقت الذي يحترق أكثرنا بنار الأسعار ولهيب رغيف الخبز، وبينما تقدم لنا الأخبار والصحف وجبات بؤس مجانا كل صباح, نجد أن هيمنة العوالم المخملية تصر على طمس تلك الصورة بإسراف يثير الاستهجان. ولماذا كلّ هذا؟ لا نعرف، مع أن الله أنعم على الكثيرين منا وتراهم يحفظون النعمة ويقدرونها ليبارك فيها الله.
الإفراط في الاستهلاك الكمالي سوس ينخر المجتمع ويفسد الأبناء ويورث المرء ارتياحا للدنيا. الاعتدال مطلوب في جميع مناحي الحياة وليس من التربية أن يبالغ الإنسان بتدليل أبنائه وتلبية جميع متطلباتهم، فينشأ الواحد منهم عبدا لشهواته.
حافظوا على النعمة لتدوم أيها المتسابقون إلى الإسراف المبالغون في الاستعراض، واذكروا أن في العالم ملايين الأطفال جاؤوا بلا تواريخ ميلاد يقبعون تحت خط الفقر, يمدون أيديهم الجافة نحو كسرة خبز مستحيلة ويموتون في أحضان البؤس تلفهم غرف كالحة وأحياء مقفرة إلا من الحاجة والتعاسة.
(الرأي)