كلمة وفاء للمؤرخ والمفكر علي محافظة
النائب الاسبق د. بسام البطوش
24-05-2023 09:42 AM
إبتداءً أُقدم خالص الشكر وعظيم الامتنان لرابطة الكتاب الأردنيين / فرع إربد على مبادرتها النبيلة (منارات إبداعية) لتكريم رموزنا الفكرية والثقافية. وإنه لمن دواعي سروري وإعتزازي أن أقف بينكم في حفل تكريم أحد منارات الوطن والأمة المؤرخ والمفكر الأردني العربي الكبير الأستاذ الدكتور علي محافظة.
• لا يتسع المقام للحديث عن مسيرة حياة أستاذنا الكبير، والوقوف على محطات حياته بين الريف والمدينة والجامعة والدبلوماسية والاكاديميا وتأسيس الجامعات ورئاستها، والابداع في الكتابة التاريخية، وإصدار ما يزيد عن خمسين كتاباً ومئات البحوث والدراسات، والمشاركة في بناء المؤسسات العلمية والفكرية المرموقة محلياً وعربياً ودولياً. لكنني في هذه العجالة سأقف عند محاولة فهم مشروع المؤرخ والمفكر علي محافظة في الكتابة التاريخية والمحاور التي قام عليها، هذا أولاً، وأبرز ملامح شخصيته ثانياً.
• أولاً- مشروع محافظه الفكري:
اعتنى ابتداء بدراسة تاريخ الأردن المعاصر، واتسع نطاق اهتمامه إلى تاريخ العرب المعاصر، وتاريخ الفكر العربي الحديث والفكر السياسي الغربي وعلاقات العرب بالغرب في العصور الحديثة، ونجح محافظة في إنشاء مدرسة في كتابة التاريخ الأردني والعربي المعاصر ، وتعتمد مدرسته في مصادر الكتابة التاريخية على وثائق الدولة الرسمية بِوَصفِها مصدراً رئيسًا للتدوين التاريخي والصحف المحلية والعربية والروايات الشفوية ومذكّرات المسؤولين والمثقفين الشخصية، إضافة إلى وثائق الدول الكبرى التي استعمرت المنطقة مدة من الزمن والدول التي كان لها ممثليات دبلوماسية في البلاد (سفارات وقنصليات). واعتنت مدرسة محافظة "بالفكر الديني والسياسي والاجتماعي واعادة كتابة تاريخ الأردن الحديث والمعاصر بروح علمية موضوعية ونقدية شاملة". ووضع أستاذنا محافظة لجيل من تلامذته أعرافاً وتقاليد راسخة في مناهج البحث والكتابة التاريخية، كما قدّم لوطنه الأردن ووطنه العربي خدمة جليلة عبر حصاده الإبداعي.
وجاءت محاور مشروعه على النحو الآتي:
• محور تاريخ الأردن المعاصر:
جاء كتاب محافظة (تاريخ الأردن المعاصر، عهد الإمارة 1921-1946م) 1973م تأسيساً في حقل الدراسات المنهجية لتاريخ الإمارة الأردنية، وأعقبه بسلسلة من الدراسات والمؤلفات الرائدة في مجالها وفي جرأتها ومنهجيتها، وكتب في ( العلاقات الأردنية – البريطانية 1921-1957م) 1973م، ونشر عدداً كبيراً من الأبحاث والدراسات في جوانب متنوعة من تاريخ الأردن المعاصر، ضمها في دفتي كتابه ( أبحاث وآراء في تاريخ الأردن الحديث- 1998م)، وكتابه (دراسات في تاريخ الأردن المعاصر، النخب والأحزاب السياسية- 2011م). وفي سياق جهوده لسبر أغوار التاريخ السياسي للأردن المعاصر، جاءت دراساته الهامة: ( الديمقراطية المقيّدة، حالة الأردن 1989-1999م)، و ( المعارضة السياسية الأردنية في مئة عام 1921-2021م). وفي المجمل ألّف محافظة منفرداً أحد عشر كتاباً في تاريخ الأردن المعاصر، وأنجز عشرات الدراسات والبحوث في هذا المجال.
• محور تاريخ العرب المعاصر:
كعادته قدّم المؤرخ العربي علي محافظة جملة من الدراسات التأسيسية الرائدة في ميادين جديدة في تاريخ العرب المعاصر، مسخّراً قدراته البحثية بثلاث لغات أجنبية هي الانجليزية والألمانية والفرنسية، وقدرته على استخدام مراكز الأرشيف الأوروبية، ليقدّم للمكتبة العربية ولصانع السياسات وللباحث العربي عدداً من الدراسات النوعية، في محاولة لفهم جذور العلاقات العربية – الأوروبية المعاصرة، وبالتركيز على موقفها من مسألة الوحدة العربية، منها: (العلاقات الألمانية – الفلسطينية 1841-1945م)، و ( موقف فرنسا وألمانيا وإيطاليا من الوحدة العربية 1918-1945م) و ( ألمانيا والوحدة العربية 1945-1995م) و ( فرنسا والوحدة العربية 1945- 2000م)، و (بريطانيا والوحدة العربية 1945-2005م)، ونشر عدداً كبيراً من الأبحاث والدراسات والكتب في تاريخ العرب المعاصر حول مسائل الوحدة العربية، وجامعة الدول العربية، معطياً جهداً خاصاً لقضية الأمة المركزية القضية الفلسطينية. وأولى العلاقات العربية مع دول الجوار الإيراني والتركي جانباً من مشروعه التأريخي والفكري، منها: (إيران بين القومية والثورة الإسلامية) 2013م، و ( تركيا بين الكماية والأردوغانية 1919-2014م) 2014. كما اعتنى بدراسة العلاقات العربية الأفريقية. واعتنى بدراسة حروب الخليج، ونُشر له كتاب بعنوان "حروب الخليج في مذكرات الساسة والعسكريين الغربيين)، 2016م.
• محور النهضة العربية والفكر العربي الحديث:
قدّم أستاذنا علي محافظة جهداً تأسيساً في ميدان الدراسات العربية في مجال النهضة العربية والفكر العربي، وجاء كتابه ( الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914م) 1975م تأسيسياً في هذا الحقل، وأصبح مرجعاً مهماً. وجاءت دراساته المتخصصة في التأريخ للفكر السياسي في الأردن وفلسطين لتسدّ فراغاً كبيراً في حقلها، ونُشرت له عدة دراسات متميّزة، منها: ( الحركة الفكرية في فلسطين والأردن 1775-1925م) و (الفكر السياسي في فلسطين 1918-1948م) و (الفكر السياسي في الأردن 1916-1946م)، و ( حركات الاصلاح والتجديد في الوطن العربي والتحديات التي تواجهه) 2018، و ( الانتفاضات الثورية العربية - 2017)، و ( الحركات الاسلامية المتطرفة في الوطن العربي) 2018، إضافة إلى عديد الأبحاث والدراسات في الفكر العربي المعاصر.
• ثانياً- ملامح شخصيته:
• نحن أمام مؤرخ ومفكر غزير الإنتاج، دائم العطاء، لا يعرف الكلل ولا الملل امتلك روح المثابرة والجد، وثقافة موسوعية، وفكراً منتظماً، كما امتلك ناصية الحرف، والصياغة اللغوية الرشيقة، والعرض المنطقي للأفكار والقدرة على تحليلها ونقدها، مما مكّنه من حفر إسمه في ميدان الكتابة التاريخية والإبداع الفكري وتقديم الدراسات الجادة ضمن مشروع علمي وفكري واضح المعالم يُركّز على التاريخ السياسي وتاريخ الفكر.
• وما ميّز مسيرته في الكتابة التاريخية قدرته على اقتحام ميادين رائدة وشائكة في البحث، والكتابة في المسكوت عنه، والجرأة في مقاربة موضوعاته، وممارسة الحرية المسؤولة في إطار تمسكه بالحرية الأكاديمية وما يرضي الضمير.
• واهتم محافظة بترسيخ حضوره الأكاديمي والفكري على المستوى العربي، سواء من خلال القضايا والموضوعات التي يطرقها في كتاباته، أو من خلال المساهمة الفاعلة والحضور المؤثر في المؤسسات البحثية والفكرية والمحافل والمؤتمرات المرموقة في الوطن العربي والعالم، فقدّم بذلك إنموجاً لمؤرخ ومفكر أردني اثبت حضوره على المستوى العربي والدوليّ، وخرج من إسار المحلية منطلقاً إلى الفعل والتأثير الخارجي. وكما نال الاحترام والتكريم والتقدير في وطنه الأردن ناله في وطنه العربي الكبير اعترافاً بمكانته المرموقة وعطائه الموصول.
• وآمن أستاذنا بقدسية مهنة التعليم، وتمسّك بوجوده في البيئة الأكاديمية السليمة، وتفرّغ للتعليم والبحث والكتابة. وعزف عن طلب المناصب السياسية، ورفضها لمّا عًرضت عليه، مما منحه الفرصة لتكريس وقته للعطاء الفكري والأكاديمي، كما تحرر من قيود كثيرة، ونجى من التأطير ضمن الصورة النمطية السائدة لمن يتقلّد منصباً رسمياً.
• كما رفض عروضاً مغرية لتولي رئاسة جامعات عربية خليجية تُدّر عليه دخلاً كبيراًن إنحيازاً منه لخدمة وطنه، والتمسك بسلامة البيئة الأكاديمية والسياسية التي يمارس فيها التدوين والكتابة والابداع متحرراً من قيود ومؤثرات لا يطيقها ولا يرتضيها ضميره الأكاديمي.
• آمن أستاذنا محافظة بجملة مباديء وقيم رسمت معالم طريق حياته، فهو لا يقبل الضيم ولا يسكت على ظلم يصيبه، وهو مثابر وجاد وصاحب إرادة لا تلين وعزيمة لا تهين، يقارع التحديات ويغالب الدنيا، ويؤمن بأنها لا تؤخذ إلا غلابا، وما جاءت إنجازاته ونجاحاتها بسهولة ويسر، ولم تكن دروب حياته مفروشه بالورود، وما استند علي محافظه على نفوذ عائلي أو سطوة جاه موروث أو مال وفير، وما وضع نفسه تحت عباءة أحد؛ فهو القادم من أعماق الريف الأردني، وهو أحد أبناء الحراثين، شقّ الطريق بعذاباته وصعوباته مرفوع الرأس واثق الخطى، وفي مسيرته من كفر جايز إلى عمّان إلى دمشق إلى بون وتونس والجزائر وباريس والقاهرة طالباً وملحقاً دبلوماسياً، وفي انتقالاته من كتّاب كفر جايز إلى جامعة السوربون، ومن معلم في مدرسة ثانوية إلى العمل في السفارات وفي مركز وزارة الخارجية، ثم إلى التعيين في الجامعة الأردنية الأم وفي نيل الترقيات العلمية فيها، ومن ثم الوصول إلى منصة الرئاسة التأسيسية للجامعة الثالثة في وطننا والمتميزة بصبغتها العسكرية جامعة مؤتة، وفي رئاسته التحديثية والاصلاحية لجامعة اليرموك، وفي عودته أستاذاً إلى قسم التاريخ في الجامعة الأردنية كان عبر مسيرته هذه مثابراً ومقاتلاً وحكيماً صبوراً إلى أبعد الحدود، مترفعاً عن الصغار والصغائر. وفي سيرته الذاتية المعنونة ب ( ذاكرة الأيام) ما يستحق أن يقف عنده كل أبناء الحراثين في بلادي ليتعلموا فن مواجهة الحياة ببسالة كبسالة أبي باسل.
• وفي مذكراته (ذاكرة الأيام) يُثني محافظه على حكومة وطنه التي أتاحت له الابتعاث للدراسة في دمشق، والفرصة لممارسة العمل الدبلوماسي في سفاراتها في خمس عواصم هامة، مقدّراً ما تركه هذا في نفسه من تصميم على رد الجميل للوطن وأهله خدمة وعطاءً وإخلاصاً.
• وكان علىي محافظة وهو يساهم في بناء لبنات راسخة في نظامنا التعليمي ومؤسساته حريصاً على تمثّل قيم النزاهة والعدالة وصون المال العام وفسح المجال أمام أبناء الوطن لنيل حقوقهم في التعليم والابتعاث والترقية مستذكراً تجربته في بواكير الشباب يوم أصرّ على نيل حقه في الابتعاث الجامعي، ومستذكراً العوائق والأفخاخ التي كانت تُنصب في طريقه عبر محطات حياته. ولعل أسرة جامعة مؤتة تذكر يوم غادر الرئيس المؤسس الجامعة وراح يٌسلّم فيلا الرئيس (السكن الوظيفي) مصراً على إحصاء الموجودات والأثاث حتى الشوكة والسكين وبالعدد! ولعلنا طلبته في الجامعة الأردنية في التسعينيات كنا نقف احتراماً له وهو يحرص على مواصلة اقتناء سيارته المرسيدس الحمراء القادمة من عقد السبعينيات!!
• وبخلاف الصورة النمطية للمؤرخين والمبدعين المنعزلين في صوامع الفكر والتدوين بعيداً عن تيارات الحياة وهموم الأوطان والشعوب، كرّس مؤرخنا ومفكرنا علي محافظة صورة أخرى للمؤرخ والمفكر العضوي المشتبك بهموم وطنه وشعبه وأمته والمواكب لتحولات الأزمنة وتبدلات الحياة متابعاً لتيارات التغيير المتتابعة، منحازاً لضميره الوطني والقومي والأكاديمي. ويجدر الإشارة هنا إلى أنه تمكّن من المحافظة على نقاء وصلابة موقفه من التطبيع مع العدو الصهيوني.