لم يخرج النقاش حول العمل الحزبي في صورته الجديدة عن الأطر المعتادة للتحليل القائم على المقارنات بين الماضي والحاضر، وبين الفكر البرامجي والأيدلوجي، ولذلك فهو لا يكاد يخلص إلى نتيجة واضحة المعالم تخدم مسيرة هي في خطواتها الأولى، لكنه يحكم عليها من زاوية محددة بعضها يتعلق بالشخصنة، وبعضها يتعلق بأحكام مسبقة على التجربة في حد ذاتها!
يتصور البعض ممن نحترم آراءهم ، ونقدر وجهات نظرهم أن الحالة الحزبية التي نعيشها الآن ليست نابعة من القواعد الشعبية وكأن القائمين على الأحزاب البرامجية القديمة والجديدة والمنتظمين فيها من نخب سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية وإعلامية ، ومن نساء وشباب ينتمون إلى كوكب آخر ، فهؤلاء جميعا مواطنون نذروا أنفسهم من أجل تشكيل أحزاب برامجية ، وفقا لقانون الأحزاب الجديد ، التقوا قبل انخراطهم في الأحزاب في جلسات حوارية ونقاشية ، وأعطوا من وقتهم وجهدهم الكثير خلال مراحل التأسيس ، وهم اليوم يجتمعون بشكل دائم في إطار اللجان الحزبية حسب اختصاصاتها ، من أجل وضع الاستراتيجيات ، وصياغة البيانات وبرامج العمل ، وهي في سباق مع الزمن لكي تكون حاضرة في المشهد الانتخابي ، عندما يحين موعد الانتخابات النيابة المقبلة ، لتملأ المقاعد المخصصة لها .
تعرف الأحزاب أن مهمتها صعبة ، ذلك أنها معنية إلى جانب مهامها الحزبية بتهيئة بيئة سياسية ليست حاضرة بعد ، من شأنها ايجاد خطاب سياسي يحاكي الأولويات الوطنية ، مثلما يحاكي منظومة المصالح العليا للدولة الأردنية في فضاءاتها القومية والإقليمية الدولية في أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية ، وهي تدرك المعادلات التي تحفظ للدولة حضورها وقوتها واستقرارها وتطورها وازدهارها ، وهذه المنظومة المتكاملة من المبادئ تميز بين ( المعارضة ) كمنهج حزبي في مواجهة المنهج الحكومي ، وبين العمل الحزبي كعنصر فاعل في ترسيخ مفاهيم المواطنة الصادقة ، وبناء الديمقراطية المتجددة ، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار ، وإقامة الأردن الجديد في المئوية الثانية من تاريخه المجيد .
تجمع العقلية الحزبية على أن جلالة الملك هو رمز الدولة وقائدها ، وأن الدستور هو العقد السياسي المصان ، وأن الجيش والأجهزة الأمنية هي القائمة بواجب الحفاظ على الأمن والاستقرار والأمان وحماية الوطن ، وهذه الثلاثية التي كانت مستهدفة من جانب أحزاب قديمة نعرفها جميعا ، أصبحت اليوم مبادئ ثابتة وغير قابلة للمساس بإجماع الأردنيين الذين علمتهم التجارب والدروس من حولهم أن الوطن ليس وجهة نظر ، وإنما هو مجموعة من القواعد والمبادئ الراسخة التي لا يجوز التهاون في الدفاع عنها ، بل وصونها من العبث ، وسد الطريق أمام محاولات النفاذ إليها تحت أي مسمى .
يعتقد البعض أن الأحزاب البرامجية الجديدة لا تملك فكرا ايدولوجيا، وهذا يعتمد على اختيارهم للمعنى المراد للأيدلوجية غير ما نعرفه عنها باعتبارها نمطا من المعتقدات والمفاهيم والأفكار الواقعية والمعيارية تسعى بصفة عامة إلى تفسير الظواهر وتبسيط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات، وذلك كله يقع في صميم الفكر الحزبي بطبيعته وكيانه.
نحن بحاجة إلى وضع قواعد جديدة للنقاش الوطني كي يكون منطقيا وموضوعيا ومفيدا، داخل الأحزاب وبينها، ومع النخب والجماعات والهيئات وغيرها، من أجل الاتفاق على الجوامع المشتركة التي ننطلق منها نحو حالة سياسية أكثر وعيا ومصداقية ونقاء!