"تستطيع أن تتمرّد على الموت، تستطيع أن تهزمه إن شئتَ.. يموت الكائن عندما يشاء ذلك.. هو الصانع لأقداره، هو صانع الحياة.. هو المبتدأ والنهاية والمتن".. لقد عدتُ لأنني قرّرت ألا أموت"! ولكن أيضاً: "كان الموت الذي أوقفَتْه اليد الإلهية "كارتاً" أصفر تحذيرياً ليس بعده إلا الكارت الأحمر الذي يُخرجه من المباراة"!
ثمَ تمثّل منطق "الرسالة"- وقد بزغت "النجاة"- بما هي حضّ على النهل من الحياة حتى الثمالة، واستمتاع بالحرية والمسرّة حتى آخر رمق، والمتحُ من اللذة والغبطة والبهجة الطبيعية بلا حدود، وبما هي دعوة للحياة الحرة السعيدة.
تلك هي الفلسفة التي تثوي في أغوار النص الروائيّ البديع الذي حررته أنامل وروح موسى برهومة في رواية (ضِحكتْ تاني)، الصادرة مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
النص حَكْوٌ لما عرَض له من حدَث ذي طبيعة "حدّيّة" ألزمه الوقوع في محنة المصير، والوقوف على حافة الوجود، أو العدم، قُبالة هذا الشيء الذي أطبق كلّ الفلاسفة على القول إنه "غير قابل للحسم"، أي الموت.
يشخُص هذا الحدث في الرواية خلف سردية فنية مبهرة، يتابع فيها الكاتب، متوسّلاً بصوته، وبثلّة من الأصوات الأخرى، وقائع "المحنة" وما تلَبّستها من أوجاع وآلام وحصْر واختناق وتفجّر عند حافة الوجود- العدم، بلغة دقيقة شفّافة تدرك الأعماق التي لا تطالها إلا عيون القلب الثاقبة المسلّحة بأحاسيس وجدانية لا تقدر على الإبانة عنها وكشفها إلا روح محايثةٌ ومتعاليةٌ في الآن نفسه، وعقلٌ ثاقبٌ ذكيّ قمينٌ بأن يعبّر بدقيق الكلام عن أدقّ المشاعر والاختلاجات والهواجس والأفكار والرؤى.
ليست هذه الرواية مجرّد سرد دقيق مرهف لعوارض الألم والشقاء والوجع الفِيزيقيّ والنفسي التي تستبدّ بالمصاب في مصابه، لكنها، في مداها العميق، ذات معنى جذريّ ينحلّ في وجودنا في العالم، ويحدّد موقفاً قبالة هذا الحدث الأقصى؛ حدث الموت.
في حضرة هذا الحدث، أو على تخومه، يشخُص ويتقابل موقفان- رؤيتان جذريّان: الأول وضعيّ طبيعيّ، مُحايث، مغلق. الثاني موقف أنطولوجيّ أو وجوديّ "مفارِق"، منفتح. وضعٌ يردّ كلّ شيء إلى الطبيعة الشاخصة وقوانينها، ووضعٌ يرسل كلّ شيء إلى وجود مجاوِز، عَلِيّ، إلهيّ. الأول هو الذي تتعلّق به الفلسفات المادية منذ إبيقور الإغريقي ولوكريتيوس الروماني، وانتهاء بالفلسفات الطبيعية و"الإنسانية" الحديثة الضاربة قي الوضعية والمادية.
الثاني هو الذي تتعلّق به الفلسفات المثالية والروحانية منذ أفلاطون وديانات الوحي إلى أيامنا.
في الرؤية التي تُقوّم هذه الرواية يظهر بوضوح تام أنّ الراوي يتمثل الرؤية الأولى؛ رؤية لوكريتيوس على وجه الخصوص، معزّزة بمفهوم سارتريّ للوجود.
وذلك يعني أنّ وجودنا في العالم وجود نهائيّ عابر، زائل، ليس علينا فيه إلا أن نقرنه بالمسرّة والحرية. ما الذي يترتّب على هذا الموقف وعلى نقيضه؟ الشجاعة والصمود والمقاومة والاحتقار لحدث الموت، في الحالة الأولى، والرهبة والخوف والتوجّس والرعب والتسلّح بالإيمان، في الحالة الثانية. الأول لا يأبه بالموت، والثاني يتعلّق بالأمل.
في رواية موسى برهومة يختار "المصاب" المقاومة والاحتقار ويُشهر للموت "أصبع اليد الوسطى".
أفلت المصاب من واقعة الموت، إذ تمّ شفاؤه بتدخل العلم في إهابه البيولوجيّ الطبيّ. وعاد المريض إلى الحياة وكأنّ شيئاً لم يكن. واقترن بذلك فيضٌ من التأملات والمباوحات الإنسانية التي تبدو نشيداً يمجّد الحياة والروح والأمل. وذلك ما تُبين عنه، على وجه الخصوص، القطع الأخيرة من الرواية، حيث يَصدر الكاتب عن حكمة إنسانية مشخصة ومفعمة بالبهجة والمرح والحبور والمسرّة، هي أنشودة للحياة وللفرح والسعادة.
بكلّ تأكيد، ما ترتدّ إليه (ضِحكتْ تاني) يمثل خياراً من المؤلف الراوي، موسى برهومة، من بين الخيارات التي تَعرِض إنسانياً قبالة "حدث الموت". هو خيار يقول- إن لم أقل يزعم- إننا نستطيع أن نتمرّد على الموت، وأن نهزمه بأنفسنا! لأننا، مثلما تذهب إلى ذلك الفلسفة الوجودية، نحن الصانعون لأقدارنا وللحياة، وفي مكُنتنا أن نقرر أن لا نموت، حتى إنه يجرؤ على القول "لقد عدتُ لأنني قررت ألا أموت"! بكل تأكيد يبدو لي هذا القول "قولاً شعرياً" و"وجدانياً"، أكثر بكثير مما هو قولٌ عقليّ، علميّ، برهانيّ. ومع ذلك فإنني أميل إلى اتهامه بالتناقض، لقوله إنّ "اليد الإلهية" أوقفت الموت بكارت أصفر تحذيراً، لأنني أرجّح أن تكون تلك واحدة من "شطحات" (موسى) الطريفة! كما إنني أعلم حق العلم أنّ قدرتنا على صنع أقدارنا ذات حدود وحدود، وفي كثير من الأحيان عدمية!
على أنّ ما يدخل في باب "الحدث الأقصى"، هو أنّ الخوض في "حدث الموت" ذو وجوه ووجوه، وأنّ أحد هذه الوجوه الجوهرية هو أنّ الحياة، بطبيعتها، مقترنة بالموت، وأنّ حشداً من الفلاسفة- ومن بينهم الفيلسوف العربي الكِندي، والفلاسفة الغربيون؛ هايدجر وجانكليفيتش وجاك دريدا، تكلّموا على "مُركّب" الحياة والموت، ودريدا نفسه رفض أن يستخدم التعبير: الحياة والموت، وأصرّ على رفع (الواو) بين المصطلحين، والتعلّق بالمصطلح: "الحياة الموت".
لكنّ رواية (ضِحكتْ تاني) لا تدّعي أن تكون "قولاً فلسفياً" تِقنيّاً في حدث الموت، وهي تظل معلّقة بسرد "إبداعيّ" فنيّ، له طبيعته وأبعاده وأغراضه. وقد تحقّق ذلك لديّ، على نحو جاذب شائق، وجدانيّ، أصيل.