الإبداع لا ينتشر بلا نشر (2-2)
سارة طالب السهيل
18-05-2023 12:18 AM
وكما يرصد الباحثون المتخصصون، فان المخطوط الإسلامي كان هو أطول مخطوطات العالم عمرًا؛ حيث امتد به العمر نحو اثني عشر قرنًا، تأرجحت فيها صناعة النشر الإسلامية (الوراقة) بين ازدهار وانحسار؛ حتى دخلت الطباعة إلى الوطن العربي، وخرج منها صناعة النشر الحديث.
حقائق مريرة
وأود الإشارة انه رغم ما نعانيه نحن الكتاب من أزمات في التعاطي مع دور النشر، الا ان دور النشر نفسها باتت تعاني هي الأخرى من أزمات مالية طاحنة جعلتها غير قادرة على القيام بدورها الرئيسي في الاقبال على الابداع ونشره مثلما كانت تفعل بالماضي بسبب عمليات قرصنة الكتب وما يتم فيها من سرقة حقوق النشر واعادة طباعة الكتب في دول أخرى وبيعها، مما يؤثر على إيرادات دور النشر التي تكون قد تكفلت بالدفع للمؤلف والمترجم والمدقق والإخراج والطباعة.
وهذه الازمة الخطيرة حتى الآن لم تجد حلا عمليا يحفظ حقوق المؤلفين من هذه السرقات،وانني لأدعو الى ضرورة التوصل الى آلية قانونية عربية توفر سبلا عملية لملاحقة قراصنة الكتب وتغليظ العقوبات القانونية بحقهم.
والحقيقة التي نقرها جميعا بأن الشهرة الأدبية التي تسهم في بيع مؤلفات الكتاب في عالم اليوم لم تعد تأتي نتيجة القيمة الأدبية او الفكرية لمضمون الكتب، بقدر ما ترتبط بالميديا وتحكمها بذوق القارئ، ومحسوبيات اخرى وذلك دون النظر لأهمية كتبه ومحتواها الإبداعي والإنساني.
والكاتب العربي لا يمكن له ان يدفن رأسه في الرمال كما النعامة، لكنه يقر بحقيقة أزمات اقتصادية طاحنة تمر بها بلادنا العربية كلها من المشرق للمغرب نتيجة تأثيرات الحروب والتفجيرات الإرهابية هنا او هناك وتقلص الاستقرار السياسي في عدد من الدول العربية،كل هذه الكوارث بالطبع تلقي بظلال وخيمة على حركة الابداع والنشر والتوزيع للكتب بل ان من يكتب وينشر ويوزع في خضم هذه الازمات يعد بطلا حقيقا في الزمان.
تحديات مستمرة
ولعلي اقف معكم امام جملة من التحديات المستمرة التي يواجهها الكتاب قديما وحديثا فكم كان المبدعون والمفكرون يرمون بالزندقة في العصور الوسطى، وكم أحرقت المؤلفات وأصحابها من كبار العلماء بسبب سطوة الكهان، وفي عصرنا الحديث في زمن العمالقة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وخيري شلبي وغيرهم من مبدعي العالم العربي يجدون نوافذ لنشر ابداعهم سواء عبر تلقف دور النشر لمؤلفاتهم او تلقف الصحف لقصصهم وقصائدهم ونشرها في حلقات أسبوعية، بينما كان القارئ شغوفا بالفكر والابداع فيقبل بنهم على هذا الأبداع عبر الصفحات الإبداعية المتخصصة او المجلات الأدبية وغيرها فيتحقق التواصل المبهر بين الكاتب والجمهور بشكل عميق جدا ربما رغم قلة دور النشر وربما عدم تطورها قياسا على ذلك العصر.
اما المبدع في عالم اليوم، ورغم اتساع حقول النشر، الا انه يواجه تحديات مستمرة خاصة بين المهتمين بالمعرفة عبر البحث على الانترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما جعله يعزف عن الكتب المطبوعة.
وهنا أصيب الكثير من المؤلفين وكل العاملين في حقول الابداع والنشر والاخراج والتوزيع بخسائر فادحة، بل انه قد يضطر بعض الشعراء والروائيين الي نشر مؤلفاتهم على الهواتف الذكية كوسيلة سريعة للنشر.
بينما الغرب الذي أنتج هذه التكنولوجيا ووسائلها، لا تزال شعوبه تكتب وتقرأ أكثر بكثير من شعوبنا وهذا واقع مؤلم علينا مواجهته وبحث سبل التصدي له.
في السنوات العجاف التي تمر بها المنطقة يعاني المبدع من تحديات حديثة وقديمة معا قد ذكرنا الحديث منها، اما القديم فهو تحد متواصل عبر الأجيال المبدعة وهي اصطدامها بدعاة الأصولية الإسلامية وبالموروثات الاجتماعية القديمة البالية التي طالما ناهضها كبار مفكرينا ومبدعينا العرب فمجرد تبني المبدع والمفكر لأطروحات جديدة فانه يصادف هجوما حادا من جانب المتمسكين بأصنام الفكر القديم البالي ومن ثم تنهال عليه تهم المساس بالأديان وخرق المنظومة الأخلاقية الثابتة، رغم ان سيد الثقلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد جاء ليحرر العقول من اصنام العقول البالية ويحارب جاهلية الأفكار والعادات والتقاليد التي لا تتفق مع سعادة الانسان وكرامته وحريته.
وفي تقديري ان الحكومات العربية مطالبة بالاهتمام بأصحاب العلم والفكر والادب مثلما كان يفعل الخليفة المأمون، حين يعطي قيمة الكتاب ذهبا فكثر عدد المبدعين في تلك الأيام أما الآن فالاهتمام منصب على محترفي كرة القدم والمواهب الغنائية و الرقص والتمثيلية فقط.
كما ان المؤسسات الثقافية الرسمية في بلادنا العربية تعاني من النقص الحاد في تمويل المشروعات الثقافية ودعم الكتاب والمساهمة في نشر ابداعهم مقارنة بنظيراتها في العالم المتقدم.
في السبعينات من القرن الماضي كان معدل طباعة الكتاب الواحد ثلاثة آلاف نسخة كمعدل اما اليوم وبعد انتشار التعليم والجامعات وزيادة السكان في العالم العربي فلم يتجاوز معدل نشر وطبع الكتاب الواحد الفي نسخة على الأكثر. وهذا واقع مؤلم يعكس ازمة الثقافة العربية الراهنة لأنها لم تكرس لأهمية ثقافة الكتاب ليكون جزءا من بيئة المجتمع الرئيسية، فالثقافة العربية لا تعطي الإمكانات المادية اللازمة والميزانيات الضرورية لقيم نشر الكتاب وترويجه عبر القنوات المختلفة ومنها المكتبات العامة ولا يحظى المؤلف ولا الناشر بالتشجيع الضروري لمواصلة رسالته.
(الراي)