الأردن على الحافة بعد احداث ايلول 1970 - حلقة 5
د. محمد المناصير
17-05-2023 04:38 PM
وصفي.. ثمن الولاء للوطن
تشكلت حكومة جديدة في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1970، برئاسة وصفي التل وضمت منيب المصري ومصطفى دودين وتشكلت من الشخصيات الأردنية من أصول فلسطينية، للتأكيد على مفهوم وصفي التل للوحدة الوطنية وصونه من أي مس بعد الأحداث الأخيرة. كما كان ضمن الوزارة إسحاق الفرحان؛ أحد أبرز قادة جماعة الإخوان المسلمين.
حاول وصفي التل ترتيب الأوضاع مع قادة المنظمة، للخروج من «شبح» الأيام السابقة، عبر تنظيم الوجود الفدائي، بما يضعه تحت مظلة القانون والدولة والسيادة. مما جعل وصفي مصراً على تطبيق إلزام المسلحين احترام هيبة الدولة وسلطتها، وعلى تطبيق الاتفاقات بصورة جدية.
وصل الطرفان إلى تفاهمات على انتقال المسلحين إلى جبال جرش وعجلون، مع إخراج أسلحتهم من المدن، والتخلي عن الأسلحة الثقيلة. لكن الجيش كان يعلم تماماً أنهم لم يلتزموا بهذا الاتفاق، فتم تفتيش البيوت والأحياء وكشف المخازن التي تم إخفاء السلاح فيها، مما كان مؤشراً على أن هناك من ما يزال يفكر بالفعل في السعي إلى فتح معارك جديدة في عمان والمدن الأخرى.
في تلك الفترة، كان أنور السادات الرئيس المصري الذي خلف عبد الناصر، مسكوناً بفكرة إقامة تسوية مع إسرائيل، لذلك لجأ إلى تحسين علاقته مع المنظمة على حساب الأردن. والحال كذلك كانت بشأن حافظ الأسد بعد أن أتم السيطرة على مقاليد الأمور في سورية، الذي كان يريد أن يحظى بشرعية ثورية على مختلف المستويات. ومن ثم، أعلنت كل من مصر وسورية قطع العلاقات الدبلوماسية مع الأردن، رداً على محاولة إنشاء «المملكة العربية المتحدة» التي كانت تعارضها مصر وسورية بشدة، إضافة إلى طلب المنظمات الفلسطينية من الدولتين مساعدتها في إجهاض المقترح الأردني. ففي 21 أغسطس 1971، قرر حافظ الأسد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الأردن وإغلاق الحدود بين البلدين. وتلا القرار السوري قرار مماثل لأنور السادات في 6 يونيو (حزيران) 1972، بعد إلقائه خطاباً معادياً للأردن لم يبالِ زيد ووصفي ورجال الدولة في تلك الفترة بما كانوا يلاقونه من اتهامات وشتائم من الإذاعات العربية ولا من الخطابات «الثورجية»؛ إذ كانت المهمة أولاً وأخيراً حماية الدولة وسيادتها وتطبيق القانون وصيانة السلم الأهلي من التلاعب الذي حدث مسبقاً.
أما وصفي التل، فقد دفع ثمن وطنيته وشجاعته، عندما قررت منظمة «أيلول الأسود»، التي أسسها أبو إياد فور خروج الميليشيات من الأردن اغتياله. فقد علم أبو إياد بنية وصفي الذهاب إلى مؤتمر لوزراء الدفاع العرب، في جامعة الدول العربية في القاهرة، لتمثيل الأردن، وبدأ يعد خطة الاغتيال عبر مجندين في منظمته السرية. غادر وصفي إلى القاهرة لحضور اجتماع وزراء الدفاع العرب (يوم الأحد 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971، وبعد أن عرض المشروع الأردني في الجلسة الصباحية، تم اغتياله - على عتبة الفندق - من قبل شباب فلسطينيين تابعين لمنظمة «أيلول الأسود»، وافتخر أبو إياد لاحقاً بأن منظمته هي التي خططت لقتل وصفي التل ونفذت ذلك.
دخل القائد الفلسطينى صلاح خلف «أبو إياد»، الرجل الثانى فى قيادة حركة فتح الفلسطينية، منزل رجل الأعمال الفلسطينى منيب المصرى، المقيم فى عمان، وكان رئيس الوزراء الأردنى وصفى التل موجودا، وفور أن رآه «أبو إياد» هاجمه بوابل من الشتائم: «يا سفاح، يا قاتل»، وحسب كتاب «فلسطينى بلا هوية» الذى يروى فيه «أبو إياد» سيرته، فإن «التل» لم ينطق بكلمة واحدة ردا على الهجوم فى اللقاء الذى تم أول شهر يوليو 1971، وترك أبو إياد يكيل الهجوم، ولما انتهى منه نظر «التل» إليه، قائلا: «دعنا نعقد ما اتفقت أنت والملك عليه، وهو إخراج السلاح من عمان»، أى «سلاح المقاتلين الفلسطينيين الموجودين فى الأردن لشن عمليات ضد إسرائيل»، فرد أبو إياد متحمسًا: «نعم سنخرج لأننا شرفاء ولا نريد قتل الشعب أو اندلاع حرب أهلية»، فنهض هانى الحسن، عضو المجلس الثورى لحركة فتح، وكان حاضرًا اللقاء، واستأذن من أبو إياد فى الحديث معه على انفراد، وفى حديثه قال له: «لماذا تقول هذا الكلام؟ وكيف نخرج من عمان؟ وإذا خرجنا فلماذا نخرج إلى جرش؟ إذا خرجنا فلنخرج إلى «إربد» حيث نضع قواتنا فتتصل بالحدود السورية، وكثير من القوات قد خرج إلى سورية، وأضاف الحسن فيما يشبه الرجاء: «يا أبا إياد ماذا يعود علينا من تجميع القوات وعزلها فى جرش؟».
خرج المقاتلون الفلسطينيون من عمان، لكن فور الخروج طوق الجيش الأردنى جبال جرش فسقطت عسكريا وجرت معركة بين الجيش الاردني والقوات الفلسطينية، فكتم «أبو إياد» أحزانه، لكنه قرر الانتقام من العاهل الأردنى الملك حسين وأعوانه، وجاءت البداية فى القاهرة بعد ظهر « 28 نوفمبر 1971»، ضد ما يصفه «أبو إياد» بـ«رمز الخيانة الفلسطينية».
قاد أبو إياد منظمة أيلول الأسود، وتكونت من الفصائل الفلسطينية، للقيام بعمليات نوعية ضد إسرائيل والثأر من المسؤولين فى الأردن، ويكشف «أبو إياد» عن أن عدة مشاريع سابقة تم إعدادها لاغتيال «التل» ليتم تنفيذها فى عمان أو القاهرة، لكنها «نبذت فى اللحظات الأخيرة»، وأن الذين نفذوا عملية الاغتيال انتظروا فى القاهرة يومين قبل التنفيذ، ويؤكد أن أحدهم وهو «مشير خليفة» صاح فور أن أردى «التل» قتيلاً وأثناء القبض عليه: «أخيرا نفذتها، أشعر برضا، لقد أرقت دم التل».
شنت الصحف المصرية هجوما حادا على منظمة التحرير الفلسطينية، وفتح موسى صبرى النار ضد منظمة التحرير الفلسطينية على صفحات جريدة الأخبار، وذهب وفد من اتحاد المرأة الفلسطينية لزيارة جيهان السادات عبرت فيه عن أسفها من الحوادث الدامية فى كتابه «رسائل المحب إلى الأحب» الذى يحتوى على رسائل أبو إياد الشخصية إلى زوجته وأبنائه، وأخرجته أسرته عام 2002 يذكر أن السيدة جيهان كان لها رأى مخالف عن رأى زوجها السادات الذى هاجم منظمة التحرير بضراوة، حيث قالت له: «ألم تكن مثل الشباب الفدائى الفلسطينى فى شبابك؟»، فهدأ السادات وتغيرت لغة الصحافة المصرية من النقيض إلى النقيض فى تعاملها مع الموضوع، بل زاد الأمر إلى حد قرار السادات بقطع العلاقات مع الأردن فى نيسان إبريل 1972 أثناء انعقاد الدورة العاشرة الاستثنائية للمجلس الوطنى الفلسطينى، وبناء عليه قدم حسين الشافعى، نائب السادات، استقالته لعدم مشاورته فى الأمر، وسمح السادات لـ«أبو إياد» أن يزور المتهمين الفلسطينيين فى سجن القلعة، وتنكر أثناء الزيارة فى ثياب «شيخ كويتى».
وقد كان مقتل الرئيس التل في الوقت الذي كانت القاهرة تشهد اجتماع دورة «مجلس الدفاع العربى»، التابع لجامعة الدول العربية، وحضره «التل»، وفى فندق «شيراتون» المطل على «النيل» أفرغ «عزت أحمد رباح» مشط مسدسه على «التل» حيث يقيم، وفى نفس الوقت تم إطلاق النار عليه من بهو الفندق ليتوفى بعد ثوانٍ. وتم القبض على منفذى الحادث وعددهم أربعة، فيما ذكر حراس وصفي التل انهم هموا بالرد على مطلقي النار ولكن تم تهديد حارسه الشخصي ان هو اخرج مسدسه من غمده فيما اطلق وصفي التل رصاصة من مسدسه اصطدت بالحائط وقال "خيانة خيانة وخر صريعا".. ومن بيروت تبنت «منظمة أيلول الأسود» الحادث، وهى المنظمة التى تم تشكيلها بعد القتال بين القوات الفلسطينية والجيش الأردنى فى المدن الأردنية، وفى 29 فبراير 1972 قضت محكمة أمن الدولة بإطلاق سراحهم، وقضوا فى القاهرة 12 شهرا، ثم عادوا للالتحاق سرا بقوات المقاومة الفلسطينية.
بعـد أربعة أشهر مـن الحادث وبعد أن هدأت الضجة السياسية التي ثارت حول حادث الإغتيـال، تساهل الرئيس المصري أنور السـادات وحكومتـه حول هذا الموضوع والسماح لعناصر تلك الخلية بمغادرة الأراضي المصرية وعدم محاكمتهم. بينما نجا السفير الأردني في بريطانيا السيد زيد الرفاعي، عندما أطلق أحد عناصـر خلية أخرى من أيلول الأسود نيرانه ولعدة مرات على سيارته في أحـد شـوارع العاصـمة البريطانية لندن، حيث أصيب بجروح بيده فقط. وبعد ذلك، إختارت منظمة أيلول الأسود أهدافا غير أردنية، فقد إحتلت إحدى خلاياها سفارة المملكة العربية السعودية في العاصمة السودانية الخرطوم، وإحتجزوا أعضائها ومـن كان بداخلها، وإغتالوا دبلوماسيين أحدهما أميركي والآخر بلجيكي. ومن ثم بـدأت حـالات الإغتيالات السياسية وإختطاف الطائرات ومهاجمة المطارات والسـفارات تعـم الكثيـر مـن العواصم الأوروبية والعالمية، حتى وصلت الى الملاعب الأولمبية التي جرت في مدينة ميونخ في المانيا الغربية في شهر أيلول 1972 حيث هاجمت خلايا منظمة أيلول الأسـود الفريـق الرياضي الإسرائيلي المشترك في تلك الألعاب، والتي إستُغلت كمنبرا دوليـا ضـد القضـية الفلسطينية.
وأصبحت تلك الممارسات والأساليب غذاء الصـحافة والتلفزيونـات والوسـائل الإعلامية الأوروبية والعالمية بشكل مستمر، بعد أن نشطت في هذا المجـال أيضـا خلايـا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحت إشراف وتنظيم ـ وديع حداد ـ أحد أعضاء قيادتها. كما ظهر أيضا في وقت لاحق تنظيما آخرا إستعمل هذا الإسلوب تحت قيادة وإشـراف أحـد قيادي حركة فتح ـ صبري البنا ـ المعروف بالإسم الحركي (أبو نضـال) بعـد أن قـاد الجناح المنشق عنها وشكل تنظيما آخرا تحت إسم حركة فتح ـ المجلس الثوري. فكانـت محصلة هذا الإسلوب وهذه الوسيلة لاحقا، إثارة موجات إحتجاج وإستنكار وحملات إعلاميـة معادية للعرب ولقضيتهم الأولى فلسطين، وللعمل الفدائي الفلسطيني، إستغلته إسرائيل بـذكاء وحكنة لصالحها. وبعيدا عـن الأسـاليب الرسـمية والمجاملات السياسية طرح الملك الحسين مشـروع المملكـة العربيـة المتحـدة علـى إثر ظهور الدلائل والمؤشرات السياسية العربية والعالمية المتجهة نحو "تسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي" بالطرق السلمية.
في سبتمبر ونوفمبر 1971 أعدت حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» تقريرا سريا في أعقاب مؤتمر جدة الذي عقد حينذاك بوساطة مصرية - سعودية لتسوية الخلاف ورأب الصدع بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية. هذا التقرير صدر حديثا في كتاب، للمرة الأولى عن دار نلسن (بيروت) وقد أعده وقدم له الكاتب محمود شريح. ويوضح شريح أنه كان وقع عليه زمن وجوده في حركة «فتح» في مكتب إعلامها آنذاك في بيروت واحتفظ به حتى اليوم حين وجد أن في نشره ضرورة لدارس العلاقات الفلسطينية ـ الأردنية. ففي أعقاب المواجهة العسكرية بين حركة المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني خلال 1970 جرى توقيع اتفاق القاهرة بإشراف جمال عبدالناصر وحضور الملك حسين وياسر عرفات لوضع أسس لوقف القتال بين الجانبين وإيجاد سبل التفاهم بينهما، ثم تلا ذلك توقيع اتفاق آخر عرف باسم اتفاق عمان كان أشبه باتفاق تنفيذ للاتفاق الأول، إذ إنه حدد أماكن وجود المقاومة الفلسطينية وأساليب عملها، إلا أن إثر معركة أحراش جرش في يوليو 1971 انتهى وجود المقاومة الفلسطينية في الأردن وألغت الحكومة الأردنية من جهتها فعليا اتفاقي القاهرة وعمان. ثم نشأت وساطة مصرية ـ سعودية كان هدفها إعادة التفاهم بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية لضمان عودة العمل الفدائي الى الأردن من جديد. وأسفرت هذه الوساطة عن عقد مؤتمر باسم «مؤتمر جدة» أو «وساطة جدة». وعقد هذا المؤتمر على مرحلتين: بدأت المرحلة الأولى في 15/9/1971 وانتهت في 24/9/1971 بالفشل. وبدأت المرحلة الثانية في 8/11/1971 وانتهت بعد فترة تأجيل في 26/11/1971 وانتهت بدورها الى الفشل، ثم أعقبها في 28/11/1971 اغتيال وصفي التل، رئيس وزراء الأردن آنذاك، في القاهرة على يد ثلاثة شبان فلسطينيين ينتمون الى منظمة «أيلول الأسود». فانتهت بذلك محاولة إعادة الحوار بين منظمة التحرير والحكومة الأردنية. وفي المرحلة الثانية من المؤتمر وافق الوفد الفلسطيني، بتفويض من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، على البحث في تعديل اتفاق عمان بما لا يمس جوهره، على ألا يعني هذا التعديل وضع اتفاق جديد. وتم ذلك بالفعل، لكن الوفد الأردني أصر على تعديل بند يتعلق بحق منظمة التحرير في أن تكون ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني أين ما وجد فلسطينيون. وهو ما رفض الوفد الفلسطيني القبول به، على رغم أنه قدم للوفد الأردني تنازلات أخرى طالب هذا بها. وعند هذه النقطة فشلت المفاوضات.
في المرحلة السابقة من مفاوضات جدة التي امتدت من 15 الى 24 سبتمبر 1971، فشلت الجولة عند نقطة محددة، هي إصرار الأردن على رفض اتفاق عمان، المنبثق عن اتفاق القاهرة، والدعوة الى إعادة النظر في بنوده، وبالتالي صوغ اتفاق جديد، بينما كان الوفد الفلسطيني يصر بالمقابل على التمسك باتفاق عمان، والتمسك بورقة العمل السعودية ـ المصرية التي تنطلق من اتفاق القاهرة.
اما عن طريقة خروج ياسر عرفات من عمان فقد تمكن الشيخ سعد العبد الله وزير الداخلية والدفاع الكويتي آنذاك من الوصول إلى مخبأ ياسرعرفات في السفارة المصرية في عمّان، حيث كانت تستضيف بعثة من الجامعة العربية. وفيما كان أفراد البعثة يغادرون، بدا أن بينهم عضواً إضافياً؛ رجل يرتدي النقاب . أبلغت دائرة المخابرات الأردنية الملك حسين بأن من المرجح أن الرجل الذي يرتدي النقاب الذي انضم إلى الوفد لم يكن سوى عرفات متخفياً في محاولة للهروب. أراد الشريف ناصر القبض على عرفات وقتله مُصرّاً على أن عرفات لا يستحق الحياة، لكن الملك أمر رجاله بأن يتركوا عرفات يغادر الأردن يقيناً منه بضرورة ترك المجال دائماً مفتوحاً لإمكانية المصالحة.
اخرجت الفصائل الفلسطينية من الأردن إلى لبنان لتشتعل الحرب مجدداً هناك حيث أسس ياسر عرفات ما سمّاه البعض بـ«جمهورية الفكهاني» وهي منطقة خاضعة للسيطرة الكاملة للمنظمات الفلسطينية داخل بيروت. في الظاهر كانت الاسباب المعلنة للتخلص وابعاد وطرد المقاومة الفلسطينية من الأردن وسورية ولبنان هو الخلافات والفوضى وتداخل السلطات والوجود الاجنبي ... اما في حقيقة الامر فهو قرار سياسي ممنهج ومدروس باحداث هذه الفتن وابعاد المقاومة عن خطوط التماس مع إسرائيل. أسست فتح منظمة أيلول الأسود والتي كان هدفها الرئيسي هو الانتقام من جميع الشخصيات التي أفشلت وجودها السياسي في الأردن، فقامت بعدة عمليات على الساحة الأردنية كان أولها محاولة اغتيال زيد الرفاعي في لندن في 15 سبتمبر 1971 كما قامت في 28 نوفمبر 1971 باغتيال رئيس الوزراء الأردني وصفي التل في القاهرة على يد عزت رباح باعتبار وصفي التل مسؤولاً عن فشل المنظمات الفلسطينية في السيطرة على النظام في الأردن. كذلك قامت المنظمة عام 1973 بمحاولة احتجاز أعضاء الحكومة الأردنية ومحاولة فك أسر الخلية التي أرادت إسقاط النظام في الأردن .
وكان وصفي التل قد حارب في جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي عام 1948 ، وعارض وصفي عهد حكومة بهجت التلهوني التي سهلت المهمة ومهدت الطرق لدخول الفدائيين الى المدن بسلاحهم وانتقالهم امام عين حكومة التلهوني الى المدن تدريجيا ، واقامة قواعدهم وتكديس اسلحتهم في المدن حتى اصبح لهم الصولة والسلطان في الاردن ، على شكل دولة داخل دولة ، مما جعل الجيش يتمرد عندما تراخت الحكومة ، ووضع الجيش الامور في نصابها فاعاد الامن الى البلاد
بعد طرد الفدائيين من عمان والمدن الاردنية والقرى والمناطق المأهولة ، قررت المنظمات الانتقام من الدولة الاردنية ، فاستخدمت اساليب خطف الطائرات، ووضع عدد من الشخصيات الاردنية على راس قائمة الاغتيالات المسلحة ، وكان الرئيس وصفي التل على القائمة ؛ فهو الذي في عهد حكومته فقدت المنظمات قواعدها في المدن واخرجت الى الغابات البعيدة ، ولم تعد لهم سلطة خاصة بعد ان تشتت قادتهم في الدول العربية وانحاء العالم
لم يكن وصفي التل يريد انهاء المقاومة الفلسطينية ؛ انما يريد ان تكون منضبطة متعاونة مع الحكومة الاردنية . وقد جاءت فرصة المخططين لاغتيال وصفي التل مناسبة بعد ان اعلن في عمان ان رئيس الوزراء ووزير الدفاع وصفي التل سوف يشترك في اجتماعات مجلس الدفاع العربي في القاهرة في اواخر تشرين الثاني 1971 ، وقد حذر مدير المخابرات الأردنية وقتها الفريق نذير رشيد الرئيس وصفي التل بأن النظام الناصري يعد لاغتياله ، فقال له وصفي : (ما حدا بموت ناقص عمر والأعمار بيد الله).
غادر وصفي التل عمان الى القاهرة في 26 تشرين الثاني 1971 ومعه عبد الله صلاح وزير الخارجية ، وحل الوفد الاردني في فندق شيراتون، وزار وصفي التل بعض رؤساء الوفود العربية ثم حضر الجلسة الاولى لمجلس الدفاع ، وفي صباح الاحد 28 تشرين الثاني 1971ذهب الى مبنى الجامعة العربية لحضور الجلسة الثانية يرافقه عبد الله صلاح وزير الخارجية وعلي الحياري سفير الاردن في مصر واللواء محمد خليل عبد الدايم رئيس هيئة الاركان . وكانت جريدة الاهرام قد نشرت خبرا مختلقا مفاده ان الوفد الاردني طلب اخلاء فندق شيراتون من جميع النزلاء الاردنيين ، وتحدث وصفي في الجلسة مطولا ، ثم تناول الوفود طعام الغداء في مقصف الجامعة ، بدعوة من الامين العام عبد الخالق حسونة ، ثم عاد وصفي الى الفندق ويرافقه عبد الله صلاح وعلي الحياري ومرافقه فايز اللوزي ، ونزل وصفي امام الفندق الساعة الثالثة والنصف وسار ومعه عبد الله صلاح الى داخل الفندق ، وقبل ان يصل الى الباب تعثر وكبى ، وترافق ذلك مع تساقط زجاج البوابة وصوت طلقات الرصاص ، حيث كان اربعة اشخاص يطلقون النار باتجاه وصفي ، فسقط على الارض وركع الحياري الى جانبه يحاول اسعافه ، ولكن الاصابة كانت بالغة فتوفي على الفور ، وقد تمكنت اجهزة الامن المصرية من القبض على القتلة . وعندما وصل خبر استشهاد وصفي الى عمان عم الحزن وموجة من الغضب العارم ورثاه الحسين بنفسه عبر وسائل الاعلام قائلا : " عاش وصفي جنديا منذورا لخدمة بلده وامته ، يكافح برجولة وشرف من اجلهما ... قضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلهما " . وفي اليوم التالي شيع جثمان الشهيد وصفي التل الى المقابر الملكية ، في جنازة مهيبة .
وقد تبين ان القتلة الاربعة جاءوا الى مصر من بيروت باسماء مزورة وبجوازات سفر سورية بعضها مزورا ومع كل واحد مسدس وذخيرة ، وكانت السلطات المصرية قد ضبطت اثنين منهم اثناء دخولهما مع مسدسيهما فاعتقلتهما ثم اطلقت سراحهما بعد ساعات ، وقد اقام القتلة اسبوعا في القاهرة قبل يوم الجريمة ، وكانوا يترددون على فندق شيراتون يخططون كيفية تنفيذ الاغتيال ، وقد ادلوا بعد القبض عليهم باعترافات كاملة ، فقد اعترفوا انهم سافروا الى الباكستان مرتين خلال عام 1971 لاغتيال الامير الحسن بن طلال ، وقد كان القتلة ؛ محمد نبيل سلامة وكان ينتحل اسم عزت رباح ، وجواد احمد ابو عزيزة وكان ينتحل اسم جواد خليل بغدادي ، وخيري سليم خشان وكان ينتحل اسم منذر خليفة ، وزياد محمود الحلو وكان ينتحل اسم زياد بدران . وقد اعلن القتلة انهم ينتمون الى منظمة " ايلول الاسود" بينما نفى ابو داوود في مقابلة مع الاذاعة الاردنية وجود منظمة تحمل هذا الاسم ، وقال ان عمليات القتل والارهاب كان يقوم بها ثلاثة اشخاص من فتح هم ؛ محمد يوسف النجار وابو حسن سلامة وكمال عدوان ، وكانوا يتلقون تعليماتهم من صلاح خلف ابو اياد الرجل الثاني في فتح.
قدم قتلة وصفي التل للمحاكمة امام محكمة امن الدولة العليا المصرية عام 1972واسندت لهم تهمة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد . واعترف القتلة ان قتل وصفي التل انتقاما لمقتل ابو علي اياد ، وقد ترافع عن القتلة عدد من المحامين منهم احمد الشقيري رئيس منظمة التحرير السابق . واخلت المحكمة سبيل المجرمين بكفالة ، وقد بدا واضحا ان المحاكمة كانت صورية امام الضغط السياسي من بعض الدول والمنظمات على مصر وخاصة الرئيسين الليبي معمر القذافي والجزائري هواري بو مدين وبتعاون من الرئيس انور السادات نفسه
لقد كان لوصفي التل تاريخ حامل في النضال القومي ، فقد ولد وصفي مصطفى وهبي التل نجل عرار شاعر الاردن في عام 1919 في كردستان العراق ، وامه كردية تدعى منيفة ابراهيم بابان ، عاد الى اربد في الاردن وعمره 6 سنوات ، وقد انهى دراسته في مدرسة عنبر في دمشق ، ودرس بمدارس الاردن ؛ فانهى دراسته الثانوية في مدرسة السلط عام 1937، ثم التحق بكلية العلوم الطبيعية في جامعة بيروت العربية ومن رفاقه في الجامعة محمود ضيف الله الهنانده وخليل السالم وحمد الفرحان .
وقد التحق وصفي بعد عودته الى الاردن بالعمل الحكومي ؛ فامتهن التدريس في مدارس الكرك وغيرها من مدن وقرى الاردن ، وانضم الى الجيش البريطاني ، ثم سرح من الخدمة بسبب ميوله القومية العربية .
وقد التحق وصفي التل بجيش الجهاد المقدس بقيادة فوزي القاوقجي ، وحارب في فلسطين عام 1948 ، وقد اسند له الملك المؤسس التدريب في جيش الانقاذ مع خمسة من الضباط الاردنيين الذين كانوا يقومون بتدريب الفلسطينيين وهم ؛ الملازم الاول علوش داغش ابو تايه ، والملازم الاول علي الهويري السرحان ، والملازم الاول محمد حمد الحنيطي ، والملازم الاول مسند حرب ابو تايه ، والملازم الاول مهدي بخيت الدراوشة ، ومعهم عدد من ضباط الصف المتقاعدون منهم الوكيل فارس الخريشة ، والوكيل سالم ارشيد النمر الفايز ، ثم اقام وصفي المصطفى التل في القدس ، وعمل مدربا مكلفا من الملك عبد الله الاول لجيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني في القدس ، وعمل كذلك في القدس في المركز العربي الذي كان يديره موسى العلمي ، ثم التحق بوظيفة مامور ضرائب في ضريبة الدخل ، ثم موظفا في مديرية التوجيه الوطني ، ثم مديرا للتوجيه الوطني عام 1955، ثم مديرا للاذاعة الاردنية ، وعمل سفيرا للاردن في بون الى عام 1961 ، وفي 28 كانون الثاني 1962 شكل حكومته الاولى وحكومته الثانية عام 1965 ، وحكومته الثالثة عام 1970
وقد تزوج وصفي التل من سعدية الجابري وهي اصلا من حلب ،ولم ينجب وصفي اطفالا ، وبعد وفاتها عام 1995 حول بيت وصفي الى متحف تراثي يحكي قصة وصفي
وفي 18 ايلول 1973 اصدرت الحكومة الاردنية عفوا عاما ، صادق عليه الملك الحسين عن جميع المحكومين بجرائم ضد الدولة باستثناء جرائم القتل والتجسس ، فافرجت الحكومة الاردنية عن 754 محكوما وموقوفا ، والغت اوامر الاعتقال عن الذين شملهم قرار الافراج . وكان من بين الذين شملهم العفو النائبين السابقين محمود الروسان وعبد السلام العوري ، والعقيد سعد صايل قائد لواء اليرموك عام 1970 ، وصالح رافت احد قياديي الجبهة الشعبية الديموقراطية ، ومحمد داؤد عودة ( ابو داؤود) ، وسعيد الدجاني ، وحسن خريس رئيس بلدية اربد عام 1970 ، والعميد التقاعد محمد توفيق الروسان ، وحمدي مطر . وبعد ثلاثة ايام افرج عن اللبناني بلال عبد القادر علي الذي حاول اختطاف طائرة عالية الاردنية عام 1970 ، وبدأ الاردنيون الذي كانوا انحازوا للفدائيين بالعودة الى عمان .