مقاربات وطنية في الزمن الرقمي
أ.د. محمد القضاة
17-05-2023 08:43 AM
في عصر السرعة والزمن الرقمي والذكاء الصناعي هل عاد للكتابةِ أثرها؟، هل ايقاعات الحياة ومتطلباتها تتناسب مع هذه السرعة؟، هل البشر والحجر يستوعبون هذه الموجة الصاخبة من التغيير؟، هل نحن في عصر القراءة والهدوء والرخاء أم في عصر اللاشيء واللامعنى واللامعقول؟، اين الجادون والاذكياء، لماذا يغيِبون أو يغيّبون؟، فمن يا تُرى يتسيّد المشهد؟!، لماذا غدا الجميع في العصر الرقمي في حالة تماهٍ وغياب!؟..
سقتُ هذه الأسئلة لكي اتحدث عن الأرقام التي قرأتها في إستطلاع الرأي الذي انجزه مؤخراً مركز الدراسات الاستراتيجية، وهي أرقام تستحق القراءة والتأمل، لأنها تؤشر على حالات متعددة ومتغيرة ومثيرة للأسئلة ، ولا يجوز لأي طرف أن يتجاهلها بأي حجة كانت سواء أكانت له أو عليه؛ لأننا لا نريد أن نحرث في البحر أو نرتدي نظارة سوداء ونتحدث عن الكمال والتميّز والإنجاز حسب، وإنما نريد أن نقرأ بعمق، لنقيّم مواطن الخلل، ولكي يحاسب المقصر ويكافىء المجد، ويمضي الصواب في طريقه، ويعود الاعتبار لمفاصل الزمان والمكان والإنسان.
المشاهدُ اليوميةُ كثيرةٌ، وتحاصرك أحياناً بتفاصيلها وصورها وأسئلتها، وكلها تؤشر على ضرورة تكاتف الجهود للخروج من تلك الدوائر والتفاصيل إلى الطموح والبناء والانجاز الفعلي البعيد عن لغة التشكيك والاتهام والنفاق، والمرحلة برمتها بعد هذه الأرقام بحاجة إلى تقييم فعلي وتحكيم موضوعي؛ لأننا حين نعود إلى الوراء إلى عقودٍ من الزمن نجد أنفسنا أمام أفكار وأزمان وأمكنة لا حصر لها، كان الجد والمثابرة والاخلاص عناوينها، واليوم بات الزمان حبيساً غريبا بيننا، أ هل لأننا لم نعد نحتكم فيه إلى الصواب والعقل، أم لأننا آثرنا مصالحنا الخاصة على المصالح العامة ومصالح الوطن؟ كل هذا يؤشر على خلل يصب في اتجاه معاكس لأولويات وثوابت وطنية تحتاج رصّ الصفوف لتجاوز غياب الوعي باللاوعي، والصواب بالسراب، والصبر بالهرب، حتى لا يبقى سؤال الذات أنت لست أنت، أ في حلم أم في حقيقة، كل شيء يتغير البشر والحجر، وغدت وسائل التواصل بمجموعها لا تنشر غير السواد والسوداوية ولا تعترف برأي غير رأيها مهما كان موضوعيا أو منطقيا، ومع ذلك لا يجب أن نستسلم لهذه الوقائع؛ لأن الوطن فوق كل ذلك، ويجب أن نقرأه بعمق ووعي وصبر وحزم ومحبة، فهو يحتضن الجميع، وعليهم ان يرفعوا مداميكه من جديد، وأن يعود تعليمه وصحته وإداراته إلى المقدمة، بعيداً عن اللغة الخشبية التي تنتقد دونما رؤية واضحة تجلد الوطن بمناسبة أو من غير مناسبة؛ وكأن كل شيء ينتهي! وهو أمر يجب قراءته؛ خاصة أننا في العصر الرقمي وعصر الذكاء الصناعي الذي يضع كل شيء على طاولة النقاش.
أقول تعالوا إلى كلمة سواء، نحمي الوطن وننطلق من ثابت راسخ وأساسي أن هذا الوطن الأردني بلدنا الذي لا نختلف في محبته وانتمائنا لترابه وعروقه، تعالوا نتصارح ونقول الحقيقة التي يجب أن يعرفها كل وطني غيور؛ الأردن لا يحتمل المواقف المتأرجحة، يحتاج المكاشفة والصراحة؛ والاردنيّ يرفض أن يمسَ وطنه أو أن يخدشَ أمنه واستقراره، وعلينا أن نقرأ بدقةٍ وعنايةٍ ما يجري في كل أرجاء المنطقة، وأن ندير حواراً وطنيًا مسؤولًا يقوم على صدق النوايا والحكمة والأناة واللين والمحبة والرفق، فهذا وطنٌ لا يحتمل انصاف المواقف ولا المواقف المتأرجحة، وما نراه جرس إنذار حقيقي لا يصلح معه أن نوارب في الكتابة أو نزاود على بعضنا بعضا، فلا نخبئ الرؤوس ونقول: كل شيء تمام التمام، أو وأنا ما لي؟ أو هبة وتمضي، أو فخار يكسر بعضه، هذا وطنٌ بُني بالعرق والتعب والدم، ويجب أن يبقى عنوان الحياة والاستقرار ورئة الجميع آمنًا مستقرا معطاء، وما نراه ونقرأه من أرقام يحتاج حوارا شاملا في مفاصل الدولة كلها؛ الحريات والمسؤوليات والواجبات والظروف المعيشية، وكل التفاصيل المتعلقة بالحياة العامة الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية،كل شيء يجب وضعه على طاولة الحوار بجرأة ومكاشفة؛ فلا يجوز أن ندفن رؤوسنا وننتظر؛ لأن المشكلات الحياتية للناس لا تنتظر التأجيل أو الإهمال أو الحلول الجزئية، الناس لا يحبون المماطلة والانتظار والآراء المعلبة، والوطن ليس لطرفٍ واحد، إنّهُ وطن الجميع، يحتاج وجهات نظر صادقة منتمية أساسها الحكمة والمسؤولية، وإلى مسؤولين يجلسون معهم يحدثونهم بهمومهم، يصدقونهم ويشاركونهم آلامهم وتحدياتهم، لا يتحدثون معهم من علٍ، ولا يغلقون أبوابهم، ولا يتمترسون خلف آرائهم وأفكارهم، نحتاج إلى الوعي واللين والصدق والمسؤولية التي تمضي بالوطن إلى بر الأمان.
علينا أن نقرأ التحديات بوعي ومسؤولية، فالسكون والصمت يخفي خلفه الكثير ولا نريد لأي طرف أن يستغل ذلك، ولنتأمل كيف كان بلدنا إنموذجا في الإيثار والشهامة والتعليم والصحة والإدارة والإنسانية، واليوم بات ضروريا مراجعة كل هذه المفاصل وتقييّمها دون تأخير أو تأجيل مهما كانت الظروف والتحديات، واللوم لا يقع على حكومة بعينها؛ وإنما الجميع مسؤول أمام الوطن، ليجيب عن سؤال الكبير والصغير اين كنا، واين أصبحنا؟ ولماذا هذه الملامح السوداوية تطغى على الأحاديث والأسئلة، ومن المسؤول عن كل هذا؟ يجب أن نعترف أننا ما عدنا نحمل الأردن كما حمله البُناة والأباء والأجداد، والمسؤولية ليست كرسيًّا نجلس عليه وننظر من خلفه؛ وإنما عمل دؤوب وإخلاص وأمانة.
ولنسأل أنفسنا جميعاً موالاة ومعارضة: هل تشعرون بحجم المسؤولية الملقاة عليكم تجاه الوطن أمام التنافسية الدولية، وكيف تتطور الدول وتتقدم؟ للأسف القلق والخوف على المستقبل بات سؤال الغيورين؛ إذ لا بد من إعادة النظر في كل السياسات ووضعها على طاولة التقييم الموضوعي والبحث والرقابة الصارمة التي تعيد الألق للقطاعات كافة، والأردن الذي اكتوى بالتحديات وجابهها بقوة وعناد لا يلين لا يجب أن يعامله أيٌّ منا شركة لفئة أو جماعة هنا أو هناك، وإنما يجب ان نقرأ الرسائل التي تطالب الجميع بالحرص على المنجزات الحقيقية لاستمرارها، ومحاربة الفساد بكل أشكاله وألوانه، وما نشاهده حول صعوبة الحياة لا يحتمل التأجيل والمماطلة والانتظار الطويل. ولا بد من المكاشفة الصادقة كي يشعر الجميع أنهم شركاء لا فرقاء، وأن يقرأ كل واحد منا حجم المسؤولية الملقاه على عاتقه كل ضمن عمله واختصاصه، لكي نحافظ على هيبة مؤسساتنا ووزاراتنا ومختلف قطاعات الدولة، علينا الخروج من الصندوق إلى أفكار خلاّقة تؤسس للاستمرار في تعزيز بناء الدولة العصرية التي تنهض بالعلم والتخطيط والتصميم والحزم، ولا يتم ذلك دون تكاتف الجهود، وهنا تبرز الحاجة إلى إنشاء مجالس حاكمية تقود مؤسسات الدولة، تنفرد بالرأي والمشورة والتقييم، ووضع البرامج والخطط كل ضمن دائرة اختصاصه لبناء دولة عصرية، مجالس وازنة تقدم خبراتها وآراءها ورؤيتها بحكمة وعقلانية، والدول المتقدمة تنجح برأي علمائها وإبداعاتهم، وتنفذ كل ما يطرحونه من أفكار وبرامج قيمة، فهل لنا أن نضع هذا الخيار وفق تصورات الدولة الحديثة؟ وتعالوا لتروا المؤسسات والوزارات والشركات التي تدار من خلال مجالس حاكمية خبيرة، حيث تضع الخطط والأولويات، وتتابع بجد ومسؤولية كل ما يرفع من سوية مؤسساتها، وفي المقابل هناك مجالس لبعض المؤسسات دورها صوري، وهذه تحتاج إلى مراجعة وتقييم دوري.
وبعد؛ ما أحوجنا إلى قراءة منجزات الدول العصرية في العالم للقياس عليها، وأخذ المفيد منها، وهو أمر ضروري للتقدم والمنافسة، وما أحوجنا لرؤية شاملة تنشط مؤسسات الوطن برمتها؛ خاصةً أنّ الخبرات البشرية المتراكمة في التخصصات كافة موجودة، وهي قادرة على التغيير والتقدم والبناء في الميادين كلها، ولننظر الى كثير من المؤسسات والاجهزة والجامعات في دول عربية كثيرة كيف بنَتها كفاءات أردنية وغدت من أفضل الدول في المنطقة والعالم، وهؤلاء يتقدمون وينافسون، ولنتقي الله في الأردن ومؤسساته وأهله وإنسانه، ولنعيد له ألقه وحضوره، وهذه دعوة لكل واحد منا أن يقرأ الحالة الأردنية قراءة متأنية وعميقة لكي يتخلص أصحاب الأجندة الخاصة من أفكارهم الغريبة التي لا تمت لواقعنا ووطننا ومجتمعنا بصلة، والأمل بأبناء الوطن الأنقياء والأوفياء وبمؤسستنا أن يتكاتفوا لكي يبقى الوطن بجماله وألقه وحضوره.
mohamadq2002@yahoo.com