الاستعمار الناعم: الوجه الجديد للاستعمار التقليدي
د. اخليف الطراونة
17-05-2023 12:22 AM
مَنْ منا لم تهزه ذكريات الاستعمار الأليمة التي عاصرها أو سمع أو قرأ عنها من احتلال للأوطان ومن جرائم قتل وتشريد ونهب لخيرات البلاد واستعباد لأهلها بأبشع ما عرفته البشرية وتاريخها المظلم؟. مَنْ منا لم يتذكر شهداءنا الأبرار، رحمات الله وسلامه عليهم، وهم يذودون عن أوطانهم بالغالي والنفيس حتى أصبح لا يخلو بيت من شهيد أو جريح أو مشرد؟.
مَنْ منا لم يسترجع ذكريات تضحيات آبائنا وأجدادنا في التصدي لمخططات الاستعمار على امتداد وطننا العربي الكبير؟ مَنْ منا-نحن العرب والمسلمين- ينسى أن الاستعمار قد جاء ليلغي تاريخنا الخاص بنا كأمم وشعوب، ليحوله إلى تاريخ إذلال واستبداد وتاريخ أسود يتحكم فيه من عقر دارنا.
يا لها من فترة مُرّة صعبة، تركتُها ثقيلة على حاضرنا ومستقبلنا، ومواريثها مؤلمة بغيضة، وتداعياتها ما زال يتردد صداها: قهراً؛ وألماً؛ وحزناً بين وطن مجزأ الى دول مقسمة يفرّ أهله من موت إلى موت، يتناحرون فيما بينهم وكأنهم أعداء وليسوا أخوة يستظلون تحت سقف وطن واحد، وتجمعهم لغة واحدة وعادات وقيم مشتركة، لكنهم مسلوبو الإرادة، وبين وطن أُغتصب عنوة، وشرد أهله بحجة دينية وتاريخية زائفة، جيء بمغتصبيه شتاتاً ولفيفاً من أقاصي الأرض، ليستوطنوا أرضاً غير أرضهم.
أما اليوم؛ فقد غابت صورة هذا الاستعمار البشعة المتمثلة في جيوش تغزو بلداننا وتنهب ثرواتنا، بعد أن أدرك صناعه مدى خطورته عليهم وتعاظم خسائره وتزايد كلفته. لتحل مكانها صورة تبدو وردية في ظاهرها وحشية في باطنها، تزينها شعارات برّاقة ومسميات منمقة، مثل: حقوق الإنسان؛ والعولمة؛ وحقوق المرأة والطفل، غايتها ارتهان الشعوب والدول لإرادتها وقرارتها، وطمس الهوية الوطنية، وتشويه المعتقد والدين، ونشر الرذيلة والقيم التي لا يقرها شرع أو دين أو خلق، وتقسيم دولنا، وتمزيق نسيجنا الوطني والاجتماعي، وتفكيك أواصر علاقتنا، وزرع أسباب الفتنة الطائفية والمذهبية لنصبح- من خلال ما يمتلكونه من تقنيات ووسائل إعلامية وأدوات تكنولوجية حديثة، دعاة لقيمهم وثقافتهم، نردد ما يقولونه لنا دون تمحيص أو دراية. وبخلاف ذلك يجب محاربتك وحصارك حتى في قوت عيشك ومصدر رزقك؛ لأنك منغلق ومتخلف وغير متحرر.
إنهم يعيدون صوْغ أفكارنا ومعتقداتنا وأخلاقنا وفق منظومتهم التي يسمونها حضارية، وتكريس مفهوم الاستعمار بحلته الجديدة، وليس بالمفهوم الذي كرسوه في الماضي بالحديد والنار.
الاستعمار «الناعم» أشد فداحة وفتكاً بنا وبأوطاننا من استعمار «القتل والاحتلال والخراب».
لكننا نؤمن أن شمس حضارتنا كما أشرقت في الماضي: إنسانية؛ وعدلاً، ومحبة، ستنير يوماً درب السائرين على خطاها، وإن كان الثمن غالياً. اللهم لا تحرمنا نعمة العيش في ظلال ذاك اليوم.
(الراي)