لا تزال عناصر الصراع والخطر في هذه المنطقة ، تتحرك بصورة قد تخرج عن السيطرة في أي وقت ، بفعل عوامل ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية مختلطة ، وفي قلب هذه المنطقة يقع الأردن الذي رغم مرور مائة عام على قيام دولته ، إلا أنه لا يزال عرضة للتشكيك بحقيقة وجوده جغرافيا وبشريا ونظاما سياسيا ، واقوى مصادر هذا التشكيك هي الأجنحة اليمينية المتطرفة المتناوبة على الحكم في إسرائيل، ويتوافق معها بقصد او بدون قصد ، عرب وأجانب وأردنيون وفلسطينيون قد لا تجمعهم شبكة واحدة لكنهم متحدون بشكل ما ، وفعّالون ، والأردن البعيد والقريب او السطحي والعميق ، لا يزال في قلب هذا الصراع ، وهو صراع مزمن ومتجدد ومولد للصراعات ، ويوصف من قبل بعض الإسرائيليين والعرب بانه صراع وجودي.
وفي داخل هذا المجال المتحرك والمتوتر والضاغط ، يبدو أن كل التداخلات الاردنية الإسرائيلية ، ، والفلسطينية الإسرائيلية ، والاردنية الفلسطينية ، منذ مؤتمر مدريد عام 1991 على الأقل ، وحتى الآن ، لم تعط أي طرف من هذه الأطراف الثلاثة فرصة نهائية للخروج من تحت الضغط ، بل إن العناصر المتحركة خلال السنوات الاخيرة تكاد تغلق الباب امام اي حل ، في وقت تشتد فيه مخاوف هذه الأطراف الثلاثة المتورطة في الصراع مباشرة ، بالإضافة للأطراف المحيطة المتورطة بدرجات مختلفة.
إسرائيل ، القوية جدا ، تستشعر مخاطر حقيقية قائمة ومتوقعة ، وحاجتها للأمن لا يمكن اشباعها من قبل محيطها الا بمزيد من التنازلات الوجودية التي يصعب على الفلسطينيين والاردنيين تقديمها ، بل يستحيل تصورها الا عبر طروحات منفصلة كليا عن الواقع ، فيما الحقيقة الوجودية الفلسطينية المتعاظمة ، باتت اكبر من أي طروحات للإلغاء او الالحاق او التصغير ، وبات الفلسطينيون يخيفون اسرائيل بحقيقتهم ، اكثر من خوفهم منها ، وهي حقيقة كشفت خلال السنوات الأخيرة عن مفاجآت غير متوقعة ، وقد تكشف مستقبلا عن تغييرات في البنى القيادية الفلسطينية في غزة والضفة وداخل الخط الاخضر ، ستكون اكثر استجابة للقواعد الشعبية المتجددة والمتحركة بشكل قابل للتناقض مع الأطر الحاكمة والانفصال عنها.
لا شيء جديد على صعيد التفاوض ، فقد تخلت إسرائيل عن خطة اوسلو وتجاوزت كل مواعيدها منذ زمن طويل ، وقضايا الحل النهائي المؤجلة أصلا ، مر على مواعيدها المؤجلة ربع قرن ، وهذه القضايا هي القضايا الجوهرية في الصراع ( الحدود ، القدس ، اللاجئين ، المستوطنات ، المياه ، الأثير..) ولا جديد عند إسرائيل سوى المقترح القديم مع تبديل الغلاف ، انه مقترح الغاء الصراع مقابل حل اقتصادي متخيل للناس الذين يمكن ان يعيشوا بجوار اسرائيل وعلى هوامشها او في أي مكان ، وهذا الحل هو جوهر مبادرة كوشنر ، وقبل ذلك هو مشروع أوسلو الحقيقي ، الذي شرحه بشكل جيد شمعون بيريس ، وهو مفهوم قديم ومتجدد في العقل الصهيوني ، يقوم على فرضية المزج بين الذكاء الإسرائيلي والطاقات العربية واستغلالها من اجل الخير للطرفين (مع التحفظ ).
اما بالنسبة لحل الدولة والدولتين ، فالإسرائيليون يقولون بشكل اصبح اكثر صراحة وعلنية ، ان هذه دولة اسرائيل اليهودية او دولة اليهود على ارض اسرائيل ، ولسكانها العرب او الفلسطينيون ، جزء مقتطع من ارض اسرائيل شرقي النهر ، فهناك دولتهم ولا داع لدولة ثانية غرب النهر ، او لا يمكن القبول بوجودها ، حتى لو كانت المفاوضات التي جرت او ستجري ، يمكن ان تتطرق لأي شيء ، فالمفاوضات هي مفاوضات من اجل المفاوضات كما استنتج صائب عريقات بعد فوات الأوان ، او كما عبّر عن ذلك مفاوضون اردنيون سابقون بعد التوقيع بسنوات طويلة.
قد لا تكون هناك جدوى ، من استعراض اخطاء التاريخ ، وتحميل المسؤولية لما يسمى الجميع ، لكن الخطأ الذي يجب علينا فهمه في سياقاته الموضوعية ، هو وحدة الضفتين بشكلها الذي تم انذاك ، مع ضرورة فهم العوامل الخارجية المحيطة في ذلك الحين ، اما الخطأ الاختياري الأخطر ، فقد كان الغاء الوحدة بقرار الرباط عام 1974 ، الذي استند لمعطيات مضللة تؤكد ان الأرض على وشك الاستعادة ، فتحول الجهد العربي كله نحو منع اعادة الضفة للحكم الأردني ، حيث يقول اسماعيل فهمي وزير خارجية مصر الأسبق ، انه كان يسابق الزمن لنزع التمثيل الاردني حتى لا تقع الضفة مجددا تحت سيطرة الاردن ، ولذلك كان الإصرار على صيغة ان المنظمة هي الممثل الشرعي للفلسطينيين ، مضافا اليها الوحيد ، وحسب تصريحات في ذلك الزمن للقائد الفلسطيني البارز صلاح خلف فانه لا مانع لدى إسرائيل ان تكون الضفة اردنية ، ولذلك كان التركيز على الهوية الفلسطينية ، على اعتبار ان الأرض قابلة للاستعادة بعد قليل.
كان التصور العربي الوهمي بعيد حرب اكتوبر ان كل الاراضي العربية المحتلة ، على وشك الاستعادة بموجب القرارين 242 ، 338 ، حرب اكتوبر التي كانت خلال ايامها الأولى ، فرقة اردنية تتهيأ للهجوم غربا ، لكن النجاح السريع والمفاجئ للهجوم الاسرائيلي المعاكس على الجبهة السورية ، وتجميد الجبهة المصرية ، حول وجهة الفرقة الاردنية شمالا ، وفيما بعد انتهت الأمور الى كامب ديفيد واوسلو وادي عربة.
رغم كل الاخطاء الكبرى ، كبرت الحقيقة الفلسطينية وترسخت ، ويبدو ان الحقيقة الاردنية هي الاخرى قد نمت وكبرت ، واصبحت الذات الاردنية تعبر عن نفسها بصورة اكثر جذرية وعمقا ، فهل تقبل اسرائيل الان بهذه الحقائق ، ام ستظل مصرة على انها هي الحقيقة الوجودية الوحيدة، وانها تحت الضغط يمكن ان تقبل بحقيقة ثانية على الهامش ، مسطحة وضعيفة او قابلة للإضعاف ، لضمان عدم القدرة على ما يسمى التهديد .
وفي سياق انكار الحقائق ، كانت دائما تظهر خطط وسيناريوهات مختلفة ، كلها تهدد الوجود الفلسطيني والاردني ، ومن مستلزماتها احداث تغييرات في البنى السياسية القائمة ، بحيث تسمح بقيام نموذج دول المول ، ففي داخل المول تتعدد الاشكال والالوان ضمن هوية واحدة فضفاضة هي هوية المول او السوق ، ألم تركز كل تلك الخطط على استبدال الحل السياسي الحقيقي بحلول أخرى؟
يدرك الامريكيون ان الأفق السياسي بات مسدودا ، وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي خلال زيارته لبيت لحم العام الماضي بقوله ان حل الدولتين بعيد المنال ، وكل ما اصبح يتم التركيز عليه أمريكيا هي جهود ما يمكن تسميته العناية التلطيفية ، ومنع العنف والتصعيد ، والهدوء والتهدئة ، من دون أي مخرج جدي ، وهذا الوضع اصبح الفلسطينيون يفهمونه ويقاومونه بطرق غير معهودة سابقا.
وعلاوة على الرفض الفلسطيني المتعاظم ، يبدو ان الأردنيين هم الان اكثر استعدادا للدفاع عن وجودهم حتى لو استدعى الامر خوض حرب ، فقد كان الملك عبدالله الثاني خلال لقاء له بعدد من المفكرين الأردنيين عام 2011 قد تحدث بوضوح حول هذه النقطة قائلا (لن يكون الاردن وطنا بديلا لاحد وهل يعقل ان يكون الاردن بديلا لاحد ونحن جالسون لا نحرك ساكنا ، لدينا جيش ومستعدون ان نقاتل من اجل وطننا ومن اجل مستقبل الاردن ) وفي عام 2019 خرج الصحافي اللبناني غسان شربل بعد لقاء له مع الملك ، قائلا ( دخلت مكتب الملك ووجدته مرتديا الزي العسكري وفهمت انه عائد للتو من زيارة مفاجئة لإحدى الوحدات العسكرية ولا غرابة في الامر، اننا في منطقة الشرق الاوسط وهي ولادة للمفاجآت والاخطار واذا كان على الحاكم ان يتحسس باستمرار ارقام اقتصاد بلاده فان عليه التأكد دائما من جهوزية جيشه ، ومن الثوابت في جيش الاردن انه لا يستطيع الاستقالة من المصير الفلسطيني )
ذلك موقف اردني متوقع ، ففي اية لحظة يكون الوجود الاردني عرضة للتهديد فان لدى الاردن جيش مستعد لمواجهة اي خطر، ومن خلف هذا الجيش شعب ، ويبدو ان هذا الشعب لم ينجح تصنيفه وفق لغات مراكز الأبحاث التي تتجاوزها حركة الواقع الأردني كل يوم ، لكن هذه الحركة بحاجة لمزيد من الاستجابة المناسبة من قبل الأطراف الرسمية والقوى الاجتماعية النافذة ، فهي حركة مملؤة بالفرص رغم ما فيها من غضب ، ولا تزال عمّان قادرة ان تنوب عن العواصم والمدن المركزية العربية التي تعطلت أدوارها ، كما لا تزال المحافظات الأردنية تمتلك عمقها وقادرة ان تظل قوة فعالة في المشروع الوطني العام ببعديه الداخلي والخارجي ، بشكل سيبقى معه سؤال كيف يصمد الأردن ، معلقا ومستعصيا على الأجوبة مئة عام أخرى او مئات السنين.