الصدق منجاة والغياب مهواة!
د. فراس الجحاوشة
14-05-2023 12:03 PM
في كل حي مهمش توجد دكانة أبو محمد، طولها ثلاثة أو أربعة أمتار وعرضها من مترين إلى ثلاثة، فيها رفوف مثبتة بمسامير ظاهرة للعيان، عليها بضاعة يمكن عدها على أصابع اليد، ويحاول أبو محمد أن يباعد بينها، لعلها تعطي انطباعا بامتلاء الرفوف، لكن عبثا، فهي قليلة يا أبو محمد وأوضح الأشياء هي طبقة غبار، وثلاجة البوظة التي تطفئها ليلا.
لكن مع هذا تجد أهل الحي يشترون من أبو محمد، ويحبونه، وعندهم دكانته أحسن من السوبر ماركت والهايبر ماركت والميني مول وما درج من مسميات عصرية.
فأهل الحي يعرفون أن الغبار المتراكم على أكياس الشبس والملح وعلب التونة والسردين، ليس بسبب قلة النظافة أو الاهتمام، بل لأن الرجل لا يملك ترف شراء مبرد هوائي وأبواب إلكترونية عازلة لدكانته، والثلاجة التي يطفئها ليلا لا يطفئها غشا واحتيالا، بل لأنه لا يملك ترف إيصالها بالكهرباء طوال الليل، فرقبته ليست أطول من فاتورة الكهرباء، لذا يشتري منه أهل الحي، فالصدق منجاة لمن اتصف به.
ذات مرة، قال رئيسٌ للوزراء كلاما لا سحر فيه ولا بدعة ولا عبقرية، قال "إن من حق المواطن الحصول على المعلومة الدقيقة من مصدرها الرسمي وفي وقتها ودون تأخير، فإيصال المعلومة الدقيقة من شأنه العمل على رأب فجوة الثقة بين المواطن والحكومة".
وأطلقت تلك الحكومة منصة حقك تعرف، وهي منصة تشبه دكانة أبو محمد، فهي بسيطة وقليلة البضاعة وكثيرة الغبار، لكن ليس فيها الكثير من صدقية أبو محمد، لذلك لا تجد الناس يشترون بضاعتها.
منصة حقك تعرف الانتقائية والمتأخرة عن ركب العالم السريع، مثال مبسط يدلل على منهجية حكومات تعاقبت وتلاحقت على تسيير شؤون البلاد، وكلها حكومات تزعم الصدقية والعمل على رأب فجوة الثقة مع الناس، لكن كما يقول المثل الشعبي "المي بتكذب الغطاس".
فكل ما وقع حدث كبير يهم الناس، اختفى رئيس الحكومة واختفت حكومته، ولا نحتاج لأن ندلل على ذلك، فتاريخ الأحداث في البلاد طويل، وما يجري عادة أن الشعب يُترك فريسة ولأيام طويلة للروايات منزوعة المصدر، وأساطير بعض ممن يسمون أنفسهم بالمعارضة الخارجية، ولا يمكنك أن تلوم المواطن المتسائل، كيف ومن أين يستقي معلوماته أو بما يتكهن به أو يحلله من إشاعات أو معلومات خاطئة، وأنت "غايب فيله".
وهنا نتساءل بشكل مشروع، لماذا تختفي الحكومة عن الأحداث الكبرى؟..
هل غابت عنها المعلومة؟، هل لديها معلومة ولكن تخشى من مواجهة الناس بها؟، هل هناك من يتحكم بما تصرح به وبما لا تصرح به الحكومة؟ ..
لو كانت الإجابة نعم عن أي من هذه الأسئلة، فهذه طامة كبرى، ولو كانت لا، فأنت حكومة تتحمل مسؤولية انتشار الشائعات، ولا يمكنك لوم الشارع إذا تأجج وفقد ثقته بك، وبحث عن رموز وشخصيات كرتونية.
وهذه همسة، تقول رئيسة منظمة الشفافية الدولية ديليا فيريرا، إن "الفساد جعل عالمنا مكانا أكثر خطورة، وإن السبيل الوحيد للتخلص من الفساد هو أن تقوم الدول بالعمل الجاد نحو استئصال الفساد على جميع المستويات لضمان عمل الحكومات لخدمة جميع الناس، وليس فقط لفئة قليلة".
الخلاصة أيتها الحكومات، أنه لا يمكن الوصول للناس بالتذاكي والخطابات المغشوشة والفوقية، ولا بالمواكب والسيارات والبدلات الفاخرة ومظاهر الأبهة، الموضوع ليس صعبا، ولا يحتاج اختراعا، الناس يحبون الصدق ومن يخاطبهم بمسؤولية واحترام وشفافية، ويعطون ثقتهم لمن يكون على قدر الحدث، ويقفون معه وخلفه، ويشترون بضاعته.