في عيد الميلاد المجيد .. تخيّلوا «أوطاناً» بلا مسيحيين!!
محمد خروب
25-12-2010 04:30 PM
في بواكير الوعي وقبل أن تضرب جذور «الفكرة» القومية عميقاً في الارض، كان نشيد «بلاد العرب أوطاني» يتردد في جنبات هذه الارض وعلى تخومها معلناً بداية النهوض ومكرساً نهج النضال لكنس الاستعمار والتخلف والجهل والمرض، وخصوصاً الاستلاب والهيمنة ونهب الثروات وضد السماسرة والخونة والعملاء الذين تماهت مصالحهم مع الاستعمار، فلم يرعووا ولم يرتدعوا.
ليس صدفة والحال هذه، ان خرج المصريون في مرحلة حساسة من نضالهم الوطني في بدايات القرن الماضي ليهتفوا في صوت واحد «يحيا الهلال مع الصليب».. قاصدين قطع الطريق على المستعمر الغربي الذي اراد استمالة المسيحيين العرب بذريعة انهم «إخوته» في الدين ضد المسلمين.
مياه ودماء كثيرة تدفقت تحت «جسر العروبة» الذي لم يصمد طويلاً، بعد ان نجح الاعداء في دق أسافين الفرقة وتأجيج الخلافات وتركيب المشاهد والأحداث وكتابة جدول الأعمال القائم على استغلال فساد الأنظمة وسيادة التعصب وانهيار المنظومة القيمية المجتمعية التي تراجع فيها مفهوم المواطنة، لتتقدم عليها مفاهيم مغرضة ومبرمجة تنتصر للهويات الفرعية القاتلة وتروج لبروز المجتمعات المفخخة التي نعيش فيها الان، يسربلنا الخوف وتحيط بها الكوارث والهزائم من كل جانب.. وجاءت مهمة «اجتثاث» المسيحيين العرب التي انتدب المتطرفون وقصيرو النظر والارهابيون انفسهم إليها، لتوصلنا الى حافة الهاوية التي لم تعد سوى مسألة الوقت، تفصلنا عن السقوط في قعرها المتمادي نزولاً وعمقاً بل وانحطاطاً..
هل تخيل أحد ان يأتي يوم يضطر فيه اتباع عيسى بن مريم ان يلغوا احتفالاتهم بيوم ميلاده المجيد، فقط لان تنظيماً شيطانياً اسمه القاعدة هددهم وتوعدهم إذا ما «تجرّأوا» على ممارسة كهذه، لم ينقطع المسيحيون العرب ذات يوم بل منذ «أربعة عشر قرناً» عن ممارساتها في حرية ومشاركة واسعة افقياً وعامودياً من المسلمين، المتنورون منهم والبسطاء؟.
لمن لم يقرأ او يسمع، فإن مسيحيي الموصل وكركوك الغوا احتفالاتهم بعيد الميلاد تحت وطأة التهديد وغياب الحماية الأمنية، التي هي جزء أساسي من مهمات الدولة المعاصرة لمواطنيها، ما بالك وقد أخذ الإرهابيون على عاتقهم «تنظيف» العراق من سكانه الأصليين وتشريدهم في المنافي لانهم اتباع الدين السماوي الثاني الذي الزمنا القرآن الكريم بأن نؤمن به وبنبيه الذي كان ميلاده معجزة ربانية تساءلت فيه مريم «قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيًّا» (سورة مريم الآيتان 20 و21).
ما يحدث في العراق وفلسطين (دع عنك لبنان ومصر) يدمي القلوب ويدعو للتفجع والتساؤل عن سر الحملة المنظمة التي تستهدف استئصال «ملح الارض» وبناة حضارتها الاولى التي ما تزال اثارها ماثلة حتى الان في الزراعة والمعمار والثقافة والصمود الاسطوري في وجه الغزوات وحملات الفرنجة لانهم في الاساس عرب ولانهم اتباع نبي المحبة والسلام وافتداء الآخرين.
ليس صدفة والحال هذه أن تصدر دعوات مشبوهة عن عواصم غربية تتقدمها باريس تبدي فيها استعدادها ليس فقط لاستقبال ضحايا الحادث الاجرامي الذي استهدف كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة ببغداد وانما ايضاً في تسهيل هجرتهم ومنحهم الجنسية، وكأني بهم اكثر محبة وعطفاً واخوة من المسلمين الذين عاشوا معهم «كتفاً الى كتف»، في اخاء حقيقي وغير مصطنع او مغلف بالنفاق، وفي مجتمعات عرفت التسامح على اعلى درجاته وآمنت بأن الوطن للجميع والدين لله، وان لا فخر (او عاراً) يلحق بالانسان إذا ما كان من اتباع هذه الديانة او تلك.
لم نصل الى نقطة اللاعودة بعد والفرصة قائمة لقطع دابر المؤامرة التي لا تستهدف المسيحيين العرب بل هي ترمي بعيداً لتقويض ما تبقى من قيم وأواصر تشكل «الاسمنت» الذي يجمع فسيفساء هذه المجتمعات العربية، التي باتت منهكة ومرهقة من القمع والاستبداد وغياب الحريات وتهتك النخب الحاكمة وفسادها الذي تزكم رائحته الانوف، ناهيك عن فشلها في تقديم ادنى الخدمات لمواطنيها من تعليم وطبابة وعمل، ناهيك عن استخذائها أمام الاعداء والغزاة.
لن تبرأ «الأوطان» العربية من عللها وامراضها واعراض شيخوختها، إذا ما «نُظّفت» مجتمعاتها من المسيحيين العرب، وعلى الذين يواصلون النفخ في كير «الفتنة الطائفية»، ان يدركوا قبل فوات الاوان، ان المسيحيين في هذه البلاد ليسوا مستوطنين او غزاة او طارئين، بل هم كما يحلو لي وأصرّ على القول وعن قناعة وضمير مرتاح انهم «ملح الارض» وانهم بناة ورواد واصحاب حضارة وثقافة اغنت الثقافة «الاسلامية» واسهمت في مقارعة المستعمرين والمستوطنين والغزاة، وآن الاوان لان يقف العقلاء والحكماء وخصوصاً مؤسسات المجتمع المدني والمثقفين للقول في صوت عال: كفى.. فاض الكيل... أوقفوا التنكيل بالمسيحيين وتعاملوا معهم كمواطنين بواجبات وحقوق.. لا رعايا ولا غرباء ولا وافدين.
ميلاد مجيد ... كل عام وانتم بخير
kharroub@jpf.com.jo
عن الراي.