جبل الجوفة .. "جبل لا ككل الجبال"
د. صبري ربيحات
12-05-2023 11:47 PM
للذين لا يعرفون عمان جيدا يقع جبل الجوفة على الطرف الجنوبي لسيل عمان ومن نقطة تبدأ قبالة سوق السكر وتتجاوز المدرج الروماني لتصل الى مخابز رغدان ويحده من الغرب وادي سرور والاشرفية ومن الشرق جبل التاج ويتداخل مع الأشرفية وصولا الى الشارع الممتد بين المستشفى والحاووز.. ويعتبر الجبل احد اولى مناطق السكن لوجود الكهوف والتجاويف الصخرية وقربه من مركز المدينة ومصادر المياه.
على أطراف الجوفة كانت مباني مؤسسات الدولة ومبنى أمانة العاصمة والمدرج الروماني ومنزل الأمير نايف وسكن احمد باشا الجندي وفلاح المدادحة والعشرات من كبار رجال الدولة وللجوفة اطلالة على عمان لا تشبهها اطلالة اخرى.
اليوم شرفني احد الاصدقاء من قدامى سكان جبل الجوفة بدعوتي للمشاركة في استقبال جاهة خطبة قدمت من السلط وكلفني ان اجيب على طلب الجاهة نيابة عن اهل المخطوبة وكل المدعويين من قبلهم..
على مدخل القاعة الفسيحة التي شيدت في احد أحياء عمان الجديدة التقى الجمعان وتصافح الاصهار الجدد مع اصهارهم الذين حضروا بمعية انسباءهم واقرباءهم واصدقاءهم وجرى الحديث عن فضائل الزواج وقدسية العلاقة ونسب العوائل وتاريخ البلاد واللحمة الوطنية والكثير مما يتداول في هذه المناسبات التي يتجاوز عددها الثمانين ألفا في كل عام.
الذي شدني اليوم اكثر من اي شيء آخر لم يكن الحديث الذي جرى ولا سماحة الحضور وطيب معشرهم وخلقهم بل حجم الأخوة والصداقة والوفاء الذي جمع ابناء نادي القادسية من سكان جبل الجوفة فقد كان زينة الأندية واكثرها قدرة على صهر الاعضاء ودمجمهم في هوية النادي والمكان ...
نعم لقد كان نادي القادسية احد معالم عمان وربما واحدا من اهم المؤسسات الرياضية والثقافية والاجتماعية الفاعلة والمؤثرة ....فقد حظي النادي بادارات متجانسة التركيب قريبة من الناس تعمل لهم وبهم ومعهم دون تكلف او انحياز فاعطت للنادي جاذبية والقا لا مثيل لهما ...
عبر سنوات طوال تمكن النادي من استقطاب الشباب المندفع المتحمس من اطراف الجبل وأحياء الجوار ونجح في تنظيم وإدارة البرامج والأنشطة التي اسهمت في استيعابهم وادارة وتوجيه طاقاتهم.
من دون نظريات ومن غير منح ومساعدات وبلا قروض او استراتيجيات استطاع النادي ان يحقق كل ما تسعى له المؤسسات المثيلة واكثر.
فمنذ ان أفتتح النادي في مقره على منحنى الشارع الفرعي الصغير تطل شعر الاهالي به كامتداد لكل بيت من البيوت التي احب الناس فيها جيرانهم ووطنهم وتقاسموا بإخلاص وصدق ضنك الحياة واحتفلوا بحلو ايامها وافراحها.
لم تكن الانشطة الرياضية والثقافة والاجتماعية التي انخرط فيها الشباب وسائل لللهو او عتبة للشهرة والاستعراض بقدر ما كانت عمليات مخلصة و متواصلة وصادقة لصهر الجيل واذابة الفوارق وتقريب الناس ودمجهم في مجتمع يشعر كل فرد فيه بهموم واوجاع وتطلعات غيره فيتعاضدوا على تحقيق ما يمكن تحقيقه ويحب كل منهم لغيره ما يحب لنفسه.
هكذا كان الجبل الذي احبه اوائل القادمين الى عمان فالجوفة كانت المكان الذي يكسبك الهوية بسلاسة ورفق وحب فبالرغم من انك قد تتوه في البحث عن نهايات حدود الجبل الذي يبدو بلا حدود تحصر هويته وتحد من التفاعل بين اهله وتماسكهم.
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي كنا طلبة في الجامعة الاردنية ولا بوصلة لدينا فيما يخص النشاطات خارج قاعات وميادين الحرم الجامعي.. واقتداء بما قام به فريق إدارة القادسية المتجانس وبحكم القرب الجغرافي لحي الطفايلة من نادي القادسية تداعى ثلة من شباب الحي لتأسيس جمعية جعفر الطيار الخيرية وتبادلنا الزيارات مع نادي القادسية وادارته التي كانت في أعلى درجات لياقتها وحماسها واستمتاعها واعتزازها بما تقوم به..
كان الاخ محمد حمدان "ابو سمير" رئيس النادي وشقيقه ابو سلطان والاستاذ حمزة الشنقيطي( يرحمه الله ) والأخ علي مطر الخوالدة والاستاذ احمد ابو شيخة وصديقه الاستاذ هاني السفاريني والعديد من الشباب القائمين على انشطة ولجان النادي عونا لنا فقد كانوا على أعلى مستويات الاستعداد لعمل كل ما بوسعهم لدعم جمعيتنا والتؤامة معها.
في مناسبة اليوم وما ان دخلت قاعة استقبال الجاهة وصافحت الاخ احسان ابو صالحة ونظرت في وجوه الحاضرين حتى عادت بي الذاكرة الى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتجسدت لي صورة جبل الجوفة والنادي الذي كان احد اهم الفضاءات العمانية الزاخرة بالعمل والحيوية والنشاط..
تذكرت كيف استطاع هذا الجبل الذي يخلو من القصبات التي نجدها في غيره من الجبال ان يصهر الساكنين و يكسبهم لونه وحبه وهويته..
في داخل القاعة التي جرت على أرضها مراسيم الطلب والايجاب قابلت اجيالا من اعضاء النادي وقياداته الذين حضروا ليشاركوا زميلهم الاستاذ احسان ابو صالحة فرحته بخطبة احدى كريماته. كيف لا فقد كان احد نجوم ناديهم ومن بين العشرات الذين حملوا الشعار والاسم والهوية حين لعب في فريق النادي لكرة القدم لقرابة عقد من الزمن قبل ان يغادر البلاد للعمل في دول الجوار.
في حديث جانبي مع رئيس النادي واعضاء من إداراته المتعاقبة احزنني خبر انتقال موقع النادي من الجوفة الى الحسين وتوقف نشاطاته الكروية.. فلا يمكن ان اتخيل الجوفة بدون النادي والمخفر ومدرسة الأمير حسن وسيارات السرفيس التي اعتادت على المناورة للمرور في الشوارع اللزجة الضيقة.
وعدت الاصدقاء في النادي بأن ازورهم قريبا لاستعادة بريق الأيام الجميلة والروح التي بثها فينا الأوائل من ابناء عمان الشرقية وجوارها وما ان وصلت منزلي حتى اجتاحني الحنين فهاتفت الاخ ابو شيخة وطلبت اليه ان يزودني ببعض صور لمبنى النادي..
تحية لكل الرجال الذين اعطوا لبلدهم ومجتمعهم الكثير دون ان ينتظروا المقابل.