مارلون براندو .. من عامل مصعد إلى عرش هوليوود
لارا مصطفى صالح
11-05-2023 04:51 PM
قد يكون أفضل ممثل عرفته السينما الأميركية خلال القرن الماضي، إلا إنه كان أحد أكثر الممثلين غموضا وجموحا. جمع بين الليونة والصرامة، الرجولة المتألقة والعنف الذي لا يعرف المرء متى ينفجر، إلى كل ذلك كان رقيق القلب جذابا. كتب عنه ترومان كابوت " لقد جسد الصورة المثالية للشباب الأميركي، شعر أشقر، عيون رمادية تميل إلى الزرقة، بنية قوية. إن خريطة الولايات المتحدة موشومة على وجهه". عاش حياة صاخبة، مصحوباً دوماً بالنساء الفاتنات، مفرطا في العلاقات العاطفية العابرة.
مسيرته في السينما كما في الحياة كانت مليئة بالتناقضات، محكومة بذكريات الطفولة البائسة. كان براندو خيارا يصعب الرهان عليه حتى في بدايته الواعدة. لم يكن يمنح نفسه للدور الذي يؤديه إلا مع المخرجين الذين يثق بهم، يحكي المخرج الأميركي سيدني لوميت عن تجربة عمله مع براندو في فيلم "The Fugitive Kind" كان يمنحني أداءين؛ أحدهما صحيح من الناحية التقنية لكنه بلا روح، والآخر كان يضع فيه كامل روحه، ولو لم أكتشف ذلك لاستمر في الأداء بالطريقة الأولى".
قاتل بحماس بالغ ضد عبقريته، ولم يعترف يوما أن التمثيل "فن"، بل كان يرى أنه وسيلة لجمع المال فقط، ولم يتوان عن التصريح أن الكتاب والمنتجين والممثلين كلهم لا يريدون الفن بل يريدون أكبر قدر من المال.
ولد براندو في ولاية نبراسكا الأميركية فى 3 أبريل سنة 1924، عاش طفولته في أجواء من التقلبات كانت بدايتها إدمان والديه الكحول وكراهيته لوالده الذي كان يعامل والدته بقسوة ما دفعه للانطواء والعزلة. حياته في نبراسكا سببت له مشاكل عديدة، أبرزها ظهور نعرة غضب ثائرة لديه إلى جانب إخفاقه في دراسته بسبب ضعف تركيزه وصعوبات كان يواجهها في القراءة. التحق في مدرسة عسكرية لكن شغبه عرضه للطرد. انتقل إلى نيويورك، وعمل في أحد الفنادق كعامل مصعد، وكان الفندق يقع بالقرب من بناية فيها معهد لتعليم المسرح "نيو سكول" أعلن وقتها عن دورة جديدة للطلبة تقدم إليها براندو وسجّل فيها.
"كان عبقريا منذ البداية"؛ هذا ما قالته أستاذة فن التمثيل والدراما ستيلا آدلر عنه. في زمن الحرب العالمية الثانية طلبت آدلر من طلاب ورشتها، وكان من بينهم مارلون براندو أن يتخيلوا أنفسهم دجاجات أصابها الذعر جراء انفجار قنبلة نووية. عم الصخب أرجاء القاعة، راح بعض الطلبة يركضون في المكان وقام البعض بتقليد الدجاج باستخدام الأيدي، بينما جلس براندو في مكانه ساكنا. سألته آدلر عما يفعله، فأجابها: "أنا أضع بيضة، ما الذي يعرفه الدجاج عن القنابل!" ربتت على كتفه بثقة وقالت له: "لا تقلق أيها الفتى، أنا أراك الآن، ومنذ هذه اللحظة سيراك العالم كله".
فيلم "التانجو الأخير في باريس" للإيطالي برتولوتشي في أحد أبعاده يعتبر بورتريه لبراندو نفسه. يقول الناقد هال هينسون: "ليس هناك ممثل استطاع أن يكشف ذاته على نحو مباشر وقوي أكثر من براندو في دور بول في التانجو الأخير". نجح برتولوتشي في كسب ثقة براندو وفي اختراق تداعياته الذاتية وهو الرجل المهووس بالخصوصية. بعد أن شاهد براندو الفيلم قرّر ألا يعمل أبدا في مثل هذا النوع من الأفلام، إذ شعر بانتهاك الجزء الأعمق من ذاته على حد تعبير برتولوتشي. إضافة إلى دور بول كانت شخصية "ستانلي كوالسكي" في فيلم "عربة اسمها الرغبة"، من أكثر الأدوار التي تقاربت فيها صفاته الشخصية حد التماهي، وأشدها وضوحا.
يعد براندو من الممثلين القلائل الذين دفعوا ثمن مواقفهم السياسية والإنسانية، كان متمردا ومشاكسا على الشاشة وخارجها. قال فى لقاء تليفزيونى فى برنامج "لاريك كنج" الأميركي سنة 1966، "اليهود يحمون هوليود، بل إنهم يملكونها فعلا" وعلى إثر تصريحه ذلك أحجم عنه الإعلام الأميركي. التزم أسطورة هوليود موقفا أخلاقيا ضد العنصرية في أميركا تجاه الهنود الحمر، وأمام حملة الإبادة والتذويب المتعمَّد التي كان يتعرض لها الهنود الحمر، لم يكن أمام براندو من سبيل ليعلن رفضه لما يحدث سوى الغياب عن حضور حفل جوائز الأوسكار عام 1973، إذ كان مرشحا لجائزة أفضل ممثل عن دوره الأسطوري في فيلم "العراب"، فاز براندو بالفعل لكنه لم يحضر. غيابه لم يكن عرضيا. حضرت نيابة عنه الممثلة "ساشين ليتل فيزر" التي كانت تشغل في ذلك الوقت منصب رئيسة اتحاد الفنانين المنتمين للسكان الأصليين في أميركا، وأعلنت رفض براندو للجائزة، وقرأت خطابه الذي وضح فيه اعتراضه على الصورة المهينة التي يظهر فيها السكان الأصليون "الهنود الحمر" من خلال صناعة السينما في هوليود.
وعلى الرغم أن الذاكرة السينمائية تحتفظ لبراندو في المقام الأول بدوره الخالد في فيلم "العراب" للمخرج فرنسيس فورد كوبولا، حيث شخص دور دون فيتو كورليون والذي منح عليه جائزة الأوسكار كأفضل ممثل عام 1973، إلا أنه حصل على جوائز عديدة، ففي عام 1955 نال أول جائزة أوسكار كأفضل ممثل عن دوره في فيلم "رصيف الميناء"، كما حصل عن الفيلم ذاته على جوائز أخرى من بينها جائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثل وجائزة الأكاديمية السينمائية البريطانية لأفضل ممثل أجنبي، وجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي.
عاش براندو حياة أشبه بفيلم درامى استمر من سنة 1924 إلى 2004 . قال يوما: "لم أكن أريد أن أصبح مثل أبى لكنى أصبحت مثله فى النهاية وأخفقت كأب". تجلت أكبر مآسيه في مصير ابنه الذي سجن بسبب جريمة قتل ارتكبها بحق خطيب أخته شايين، ما دفع بـ"شايين" إلى الانتحار فيما بعد. بعد انتحار ابنته وسجن ابنه، أدرك براندو جزءا من الحقيقة فقال "كل إنسان قادر على الكراهية، وكل إنسان قادر على الحب، ونحن نؤقلم أنفسنا بطريقة أو بأخرى فيمكن أن نصبح قتلة ويمكن أن نصبح صالحين"!
كما بدأت رحلة العراب براندو في الحياة، كذلك انتهت. فعندما شعر بقرب النهاية، عاد مرة أخرى إلى العزلة التامة، وذات يوم اتصل بأصدقائه وأخبرهم بأن يستعدوا لجنازته لأنه أصبح الآن "مستعدا للموت". وأسدل الستار على حياة براندو الذي صنف رابعا في قائمة أساطير السينما الأميركية يوم 1/يوليو 2004 في لوس أنجيلوس إثر إصابته بفشل رئوي.