سيادة الحدود .. مقاربات جديدة
وليد شنيكات
11-05-2023 04:35 PM
لا ترتبط علاقات الدول فيما بينها باستراتيجية "الأخلاق البراغماتية" بقدر ما تجمعها سياسة "موازنة الربح والخسارة"، وهي هنا حاضرة بقوة في ترسيم علاقة الأردن وسوريا، خاصة عندما يتعلّق الأمر بقضايا تمسّ الشأن الأمني وسيادة الحدود وأمن المجتمع الأردني الذي يستضيف على أرضه قرابة 750 ألف لاجئ سوري.
تَحمَّل الأردن الكثير وعضَّ على جرحه سنوات وطفح الكيل وهو يُداري رغم الأخطار الكبيرة التي كانت تأتي من الجار الشمالي جرّاء عمليات تهريب المخدرات، حتى وصل الأمر أن خسر البلد أفضل شبابه في الجيش والأمن برصاص الغدر والخيانة من الجماعات المسلحة على الحدود البالغ طولها نحو 375 كيلومتراً.
جَرَّب الأردن كافة الوسائل الأمنية والدبلوماسية المباشرة لوقف أو الحدّ من "حرب المخدّرات"، التي تستهدف أمنه، غير أنه لم ينجح وظلّ الأمر في إطار سياسة الدفاع عن النفس في مواجهة جماعات إرهابية تمتهن تجارة المخدرات على حدود المملكة وبإشراف مليشيات تشرف عليها إيران لغايات تحقيق مكاسب سياسية وأيضاً شخصية، الأمر الذي استدعى إيجاد مقاربات جديدة لقطع دابر الأخطار القادمة عبر الحدود الشمالية.
منذ اليوم الأول الذي برز فيه ملف تهريب المخدرات ببعديه الأمني والسياسي فإن لدى الحكومة السورية القدرة الكبيرة على ضبط حدودها مع الأردن، وهي على علم كامل بما يجري هناك لكنها كانت تستثمر هذا الملف لمراحل لاحقة، ولا أستبعد أن يكون ذلك كان يتمّ بالتنسيق مع إيران ومليشياتها الضالعة في هذه التجارة، ومن هذه المراحل العودة السريعة إلى الجامعة العربية وكان لها ما أرادت، وها هي السعودية أيضاً تُعيد فتح سفارتها في دمشق.
في فترات سابقة كان الجانب السوري يتذرع بفقدان السيطرة على هذه المناطق وأن هناك رشاوى وقوى ذات نفوذ تدير ملف المخدرات في محافظات الجنوب، وهذه الرواية لم تكن تُقنع الجانب الأردني الذي مَلَّ بدوره من سياسة النأي بالنفس السورية عمّا يجري على حدودها، واليوم يتضح صحة التخمينات الأردنية، فالحكومة هناك لديها معرفة بأماكن وأسماء المليشيات والشخصيات التي تنشط في هذا المجال.
الأردن لم يعد يحتمل سياسة المماطلة والتذاكي واللعب بهذا الملف الخطير للضغط على أمنه وسيادته، فكان لا بد من معالجة ذلك عبر تفاهمات مع واشنطن التي شنّت بدورها هجوماً في آذار الماضي على ملف المخدرات السورية وفرضت عقوبات على أشخاص، بينهم أقارب للرئيس السوري، لدورهم في إنتاج مخدرات الكبتاغون وتصديره إلى دول الجوار. كما اعتبرت سوريا دولة رائدة عالمياً في إنتاج الكبتاغون الذي يمرّ قِسمٌ كبيرٌ منه عبر لبنان.
واشنطن التي طوَّقت النظام السوري بقانون قيصر استشعرت مبكراً الخطر الذي يواجهه الأردن، وهي هنا لا تلوم الأردن على أي تصرّف أو خطوة يتخذها لحفظ أمنه، ما جعل عمّان تذهب إلى طرق أكثر براغماتية وهذه المرّة من بوابة السياسة التي تسمح لها أن تتدخل عسكرياً خاصة وأن مخاطر التهريب تجاوزت حدود المملكة إلى دول أخرى مجاورة مثل السعودية.
لذلك يبدو أن ثمة تفاهماتٍ مسبقة مع واشنطن لمعالجة ملف المخدرات السورية، وقناعة مشتركة لدى الجانبين بأن هذا الخطر الكبير لا يمكن معالجته بالقطعة من خلال عمليات جراحية استباقية تشمل مراقبة الحدود أو تغيير قواعد الاشتباك مع "مافيات انتحارية" لديها خبرة واسعة في صناعة وتهريب المخدرات كما حدث في سنوات سابقة، وهذا الأسلوب على أهميته لم يحقّق الهدف على الوجه الأكمل، فعمليات التهريب تُنفَّذ بازدياد برغم المخاطرة التي يُدركها تجّار المخدرات، وقد ألحقت قوات حرس الحدود خسائر فادحةً بهذه المليشيات خاصة عندما غيّرت قواعد الاشتباك فقتلت منها العشرات، غير أن هذا لم يحدّ كثيراً من نشاط تلك المجموعات، فبين فترة وأخرى كنا نلاحظ أشكالاً جديدة من أنشطة التهريب عبر تقنيات متطوّرة، ما يؤكد أن ملف التهريب تقف وراءه وتديره جهات أمنية وسياسية في الجانب الآخر، وكان هذا مرصوداً ولكن غير مُصرّح به.
المقاربة الأمنية لمعالجة الملف، تستدعي الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع تجّار المخدرات في درعا والسويداء، وهذا لا يُمكن أن يحدث بحسب قناعة صاحب القرار الرسمي إلا بتفاهمات مع الحكومة السورية مباشرةً. وكانت استعادة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية هي المناسَبة المناسِبة لمثل هذه الحالة، وهذا واضحٌ تماماً في وجهة نظر السوريين.
من هنا لا يُمكن فصل العملية العسكرية الأخيرة في الجنوب السوري عن سياق تفاهمات اجتماع عمّان التشاوري مع الحكومة السورية التي بدأت تقطف ثمار هذه الاجتماعات من خلال قرار إعادتها إلى الجامعة العربية. ولا شك هي تفاهمات تصبّ في مصلحة الجميع، فأمن الحدود مع سوريا قضية لا يُمكن التهاون فيها وقد ذهب لنا من أجلها شهداء وجرحى، على أيدي المجموعات الإجرامية الضالعة في تجارة المخدرات في محافظات الجنوب السوري.
لكن أيضاً سوريا التي نجحت بالفعل في استثمار "حرب المخدرات" لتحقيق مصالحها السياسية ستتعامل وفق قاعدة "خطوة بخطوة"، وهذه المرّة لصالحها وليس لصالح المجموعة العربية "الأردن ومصر والعراق والسعودية"، أي أنها لن تُقدِم على خطوة جديدة إلا بقدر ما تحقّق أهدافها، فهي لن تسمح بتنفيذ عمليات عسكرية أخرى داخل أراضيها بالمجّان كما هو واضح، وهذا ربما ما أشار إليه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد لنظرائه العرب في اجتماع عمّان عندما قال: إن التقدم في كبح تجارة الكبتاغون يعتمد على الضغط العربي على الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات، ويقصد "قانون قيصر".
سؤال المليون، هل نحن بصدد التنسيق لإيجاد منطقة عازلة أو آمنة في الجانب السوري ضمن نسق تكتيكي من خلال القيام بعمليات تمشيط مركّزة وخاطفة ضد تجّار مزارع الحشيش؟ وهذا جزءٌ من استراتيجية علنيّة هدفها طيّ ملف مزعج لجميع الأطراف، بَيْد أن ذلك سيعتمد بالدرجة الأولى على مستوى تحرُّك مجموعات التهريب المسلحة التي تتلقّى أوامرها من إيران التي تُدير ملف المخدرات السورية على الحدود كما تُدير ملفات السياسة الأخرى.