ما يزال السودان غارقا في فوضى الحرب التي انفجرت في منتصف نيسان بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المدعو حميدتي، لكن الملفت أن انشغال العالم خلال هذه المرحلة من عمر الصراع تركز في أغلبه على إجلاء الأجانب من هذا البلد المنكوب، إذ سرعان ما اندفعت العشرات من الطائرات والسفن الحربية لترحيل آلاف من الهاربين من جحيم الحرب، لكن المؤلم أن الكاميرات التي بثت إجلاء هؤلاء لم تتجرأ على الدخول لقلب الصراع لرصد معاناة الناس والمدنيين في خضم هذه المعركة حامية الوطيس، ولم نشهد على الأقل خلال الأسبوعين الأولين أي اندفاع حقيقي من قبل الأطراف الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية لبلد كان غارقاً في الأساس في أزمة اقتصادية خانقة، لقد اكتفى الجميع بنقل الأحداث من بعيد بالرغم من أن أغلب التقارير أكدت على خروج اغلب المستشفيات عن الخدمة، مع ذلك لم نشهد سوى محاولات متواضعة لا ترقى لمستوى حاجة البلد لهذه المساعدات الطبية وطبعاً الغذائية.
ربما مرد كل ذلك الى اللامبالاة الأميركية علماً بأنها الوحيدة القادرة على تجييش المجتمع الدولي نحو هكذا قضايا، ولا يبدو أنها تريد أن تنشغل وتشغل العالم بقضية تلهيها عن الحرب في أوكرانيا، فهزيمة روسيا هناك هي أولى أولوياتها وهي تُحجم الصراع الى مستوى نزاع داخلي يمكن إدارته وتسويته من خلال الوسطاء الإقليميين، وهؤلاء لا يمكن أن يمتلكوا ما لدى الولايات المتحدة من قدرات وثقل لحل الأزمات وهي هنا تعود بنا الى فكرة القيادة من الخلف، بالتالي هي لا تضع ما يحدث في السودان في موقعه الحقيقي وهذا سوء تقدير كبير سيجعلها لا تستخدم ثقلها السياسي في الأمم المتحدة وخارجها لحل هذه الأزمة، ربما هذا ما يدفع اغلب الأطراف لوضع ستار يحجب مواقفهم الحقيقية، فالجميع ينتظر ما قد تسفر عنه هذه المواجهة حتى يحدد موقفه بشكل واضح، رغم أن التسريبات أصبحت تشير الى بعض المواقف، مثل موقف مصر الداعم للجيش وموقف أثيوبيا الداعم لحميدتي، وموقف قوات فاغنر المؤيد لحميدتي، عدا عن ذلك تبدو مواقف بقية الأطراف معلقة بين الطرفين.
والملاحظ أن كل طرف بدأ بشيطنة الطرف الآخر لكسب دول وقوى إقليمية، فالجيش حسم الموقف مبكراً عندما عدّ قوات الدعم السريع متمردة على الشرعية، أما قوات الدعم السريع فاتهمت الجيش بأنه مدفوع من قوى النظام السابق في الجيش لإجهاض عملية تحويل السلطة للمدنيين. ومثل هذا الاتهام ساقه المكتب التنفيذي لقوى الحرية والتغيير ودلل عليه بهروب أحمد هارون نائب الرئيس السابق عمر البشير، كل تلك كانت محاولات للتأثير على قرار بعض الدول العربية لما تتخذه تلك الدول من مواقف رافضة لعودة التيار الإسلامي، رغم أن القوى التقليدية مثل حزب الأمة القومي الذي وصف ما يحدث في السودان بأنه ردة سياسية كاملة محمية بالسلاح بصرف النظر عن الدوافع والأسباب، وهو هنا ألقى بالتبعية على طرفي الصراع ومثل ذلك فعل حمدوك رئيس الوزراء السابق عندما قال إن النزاع الحالى حرب لا معنى لها بين جيشين مؤكداً أن لا أحد سيخرج منها منتصراً، لهذا السبب يجب أن تتوقف، وهو هنا يلقي باللائمة أيضاً على طرفي الصراع، هذه المواقف تؤكد ان انحياز القوى السياسية ما يزال ينتظر الحسم، أما على المستوى الشعبي فيبدو حسب التقارير أن الجيش هو من يتمتع بدعم المواطنين بشكل واضح.
والملفت أن هذه الحرب أخذت من الأوصاف ما لم تأخذه أي حرب، فهي اولاً حرب الحليفين وثانياً حرب الجيش ومليشيا الجيش وغير ذلك الكثير، لكنها وبرغم تعدد التسميات قد تذهب بالسودان إلى أبعد مما يمكن تصوره، صحيح أن أياً من الخصمين لم يستطع تحقيق انتصار سريع وخاطف وهذا ما قد يقودهما الى الجلوس القسري على طاولة مفاوضات، لكن المفجع أنه قد يدفع بالسودان من جديد نحو أتون حرب أهلية قد تعمق جروحه وتدفع به بالتالي الى التقسيم، بالذات بسبب هذا التلكؤ الدولي وعدم المبالاة الأميركية والدولية، ويبدو أن هذا ديدن دول العالم المتحضر حيال أغلب الصراعات في أفريقيا والتي ما يزالون يعدونها صنفا ثانيا من البشر لا بأس لو قتلوا أو شردوا أو عانوا من الفقر والفاقة والمرض، فهذه القارة لا تصلح إلا لحفارات المواد الأولية عدا عن ذلك لا قيمة لها ولمواطنيها، بالتالي فإن تفاقم الصراع أمر وارد وتوسعه في القارة ليس مستبعداً وإطلاقه موجة جديدة من قوى الإرهاب أمر لا مفر منه، لذلك فإن من مصلحة العالم أن يتدخل بأسرع وقت لإنهاء هذا الصراع وإلا فإن العواقب وخيمة ولا يمكن حساب كلفتها على أفريقيا والعالم كله.
الغد