المشكلة في ما يسمّى مؤسسات المجتمع المدني NGOs ليس في وجود مثل هذه المؤسسات بحد ذاته، المشكلة تكمن في مسألتين أساسيتين:
المسألة الأولى هي مسألة المفهوم/ المنظور؛ فلطالما كانت لدينا مثل هذه المؤسسات، ولكنّها كانت مؤسسات "أهلية" تعمل تحت عناوين العمل "الخيري" و"التكافلي" وتعبّر بلغة العِلم عن قيم "المجتمع التراحمي".
وحتى وقت قريب كان المجتمع الأردني ينفرد بوجود "قطاع أهلي" مميّز كمّا ونوعا يلعب دورا وطنيا أساسيا كشريك في بناء التضامن المجتمعي والتنمية.
بينما مفهوم "المجتمع المدني" هو مفهوم إمبريالي بالمعنى المعرفي والاجتماعي للكلمة يقوم على استباحة "الفضاء العمومي" للفضائين "البيني" و"الخاص"، وإحلال "المجتمع التعاقدي" مكان "المجتمع التراحمي"، والتهوين من قيم العمل الخيري والتكافلي حد "الاستخفاف" أو "الشيطنة" باستخدام عبارات برّاقة ولكن جوفاء و/أو مغرضة مثل "تمكين" و"شمول" و"مشاركة" و"ريادة".. إلى آخر القائمة.
مفهوم "المجتمع المدني" هو تعبير عن هيمنة قيم السوق ومرجعيته، وتسلله إلى مؤسسات يفترض أنّها ظاهريا غير ربحية وتتبنّى قيما اجتماعية وثقافية و"تنموية" مغايرة!
المسألة الثانية هي مسألة "الأجندة"؛ فالمانحون والداعمون هم مَن يحددون بسيف التمويل لغالبية منظّمات المجتمع المدني القائمة أجندتها وأولوياتها على حساب الأولويات الوطنية الحقيقية، ويحددون أيضا الحلول "المفروضة" لهذه الأولويات المفترضة!
غالبية المدافعين عمّا يسمّى "المجتمع المدني" سواء من داخله أو خارجه، ينطبق عليهم الوصف الشعبي الدارج "حافظ مش فاهم"، ويختبئون وراء خطاب دعائي "مزوزق" و"مبهوَر" ومُزاوِد بعيدا عن الفهم "العلمي" الدقيق والحس "التنموي" السليم.
ومنهم مَن يدافع عن "البرستيج" ووهم "الاحتراف" و"العصرنة" الذي يمنحهم إيّاه الانخراط في "موضة" المجتمع المدني.
وإذا استفلس واحدهم، يختبئ وراء "برجماتية" تتخذ من "الوضع القائم" حجة وذريعة للتماهي مع هذا الوضع القائم أكثر، وتكريسه أكثر وأكثر.
ومع الوقت ظهرت لدينا "طبقة طفيلية" في المجتمع أضحى "المجتمع المدني" بمثابة "رأسمالها"، سواء رأس المال بمعناه المادي المباشر، أو رأس المال بمعناه الثقافي/ الرمزي الأوسع.
كل شخص بلغ الأربعين فما فوق في الأردن يستطيع أن يعقد مقارنة ما بين الدور الكبير الذي كان يلعبه "القطاع الأهلي" على محدودية إمكاناته ومصادر تمويله في السابق، وبين الأثر الاجتماعي شبه المعدوم لما يسمّى مؤسسات المجتمع المدني حاليا قياسا بمئات الملايين من أموال الدعم والمساعدات التي تنفق جزافا، ولا يصل للمستفيدين النهائيين منها سوى "من الجمل إذنه" على رأي التعبير الشعبي الدارج، في حين تزداد المشكلات الاجتماعية حدّةً وتجذّرا نتيجة التعامل الشكلاني والدعائي المؤدلج والمرتبط بالسوق مع هذه المشاكل!
من تبعات هيمنة مفهوم "المجتمع المدني" أيضا تفريغ المؤسسات الأهلية التقليدية أو التاريخية القائمة على مستوى "المجتمع المحلّي" من مضمونها (جمعيات، أندية، منتديات، روابط.. الخ)، بحيث أضحت هذه المؤسسات عبارة عن هياكل جوفاء فاقدة لجوهرها الاجتماعي الذي هو مبرر وجودها، وتحوّل ما بقي قائما منها إلى أدوات بيد منظمات دولية أو منظمات "وطنية" تلعب دور "كمبردور اجتماعي وثقافي" للمانحين والمموّلين الأجانب!