الصندوق الاسود 8 .. سرطان الحكومات
د. كفاية عبدالله
01-05-2023 11:50 AM
المصلحة العامة هي النقطة المرجعية لتقييم مسارات العمل المختلفة للإدارات العامة، وهي أداة تحديد البوصلة نحو الطريق الصحيح للمضي قدماً لتحقيق طموحات الشعوب، من خلال تقديم مصلحة المجتمع على المصالح الشخصية والضيقة للأفراد أو الجماعات، وهذا هو صميم الحوكمة (الحكم الرشيد).
وفي سياق حوكمة الإدارة العامة لا يكتفي الأمر عند الاختيارات المتعلقة بالسلوك الفردي وفق للقواعد الأخلاقية للمسؤولين حسب القناعات التفضيلية أو الاتجاهات الشخصية ، وإنما تتعداه لتكون مجموعة من القيم التي توجه أداء المسؤول أو الموظف تجاه الواجبات العامة وما نسميه بأخلاقيات الوظيفة العامة التي يتطلب تطبيقها على مختلف المستويات التنظيمية في مختلف الأنظمة وبأكملها في جميع تفاعلاتها لتكون الإدارة العامة متسقة متناغمة على أوتار الأهداف الاستراتيجية ونتائج أعمال الحكومة.
في حين أن الفساد سرطان الجيوب؛ إساءة استخدام المنصب العام أو السلطة (الموكلة) لتحقيق المكاسب الشخصية أو الخاصة وتحقيق ميزة غير مستحقة، من خلال توفر الفرصة واستخدام السلطة التقديرية لاتخاذ القرار والوصول المميز للموارد العام في ظل غياب القيود التي يفرضها الرأي العام أو ممارسة الضغوط المجتمعية للحد من تفشي المرض مع ضعف في الآليات المستخدمة للمساءلة وفرض القانون أو التدقيق أو التلويح بالعقوبات ، وبذلك يمكن أن نصل للمعادلة التالية:
معادلة الفساد: } الفرصة – القيود { = مخاطر الفساد
وتتمثل مهمة الإدارات العامة في وضع الأنظمة والتعليمات والهياكل لمساعدة المسؤولين على اتخاذ الخيارات المثلى ، خاصة عند مواجهة قرارات أخلاقية صعبة ، وتحديد عتبة النشاط (غير) المقبول بشكل لا لبس فيه. يجدر الإشارة أنه لا توجد حزمة واحدة من الإجراءات التي يمكن تطبيقها في جميع الظروف لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد (سواء في مواجهة الفساد الممنهج أو الفساد المتقطع)، فإن الاستجابة السياسية الأكثر فعالية تعتمد على الظروف المحلية ومدى انتشار الفساد وتغوله ، بالإضافة إلى مستويات الوعي المجتمعي وتماسكه وفعالية مؤسسات المجتمع المدني.
إلا أن الإدارات العامة مطالبة في وضع إطار عام للنزاهة ومكافحة الفساد من خلال إظهار الالتزام على الدوام من أعلى هرم الحكومة وقياداتها التنفيذية وإظهار الرغبة والسعي الجاد لتحقيق المنافع طويلة الأجل بما يخدم الصالح العام وتحقيق طموحات وآمال المجتمع
وتفعيل نظام المساءلة والمحاسبة لجميع المستويات القيادية ومراجعة اتفاقيات الأداء للأمناء العاميين وربط نتائج الأداء وتجديد العقود بالأهداف المنجزة باستخدام أنظف الطرق والأساليب الناجعة. بل إن الإطار العام للنزاهة يتطلب وضع شروط مسبقة لاختيار القيادات ومعايير اختيارها وفق الكفايات السلوكية والجدارات والتي من ضمنها التحلي بقيم النزاهة والشفافية والتمتع بالسمعة الأخلاقية والقبول العام للقائد لدى الآخرين.
وفي حالة انتشار الفساد الممنهج لا بد من التحلي بالشجاعة لتحدي المصالح المكتسبة وتفكيك الفساد عبر وجود إطار عام لمكافحة الفساد ووجود مجموعة من المعايير واللوائح لتعزيز النزاهة ومعالجة قضايا الفساد.
تشير الأبحاث إلى أن الشفافية ، والتبسيط الإداري ، والحكومة الإلكترونية ، وإتاحة الوصول للمعلومات، والتدقيق الصارم على الجودة ، والقضاء الفعال ، ووسائل الإعلام المستقلة ، ومنظمات المجتمع المدني النشطة تعد من بين أكثر العلاجات فعالية للفساد ، ويمكن القول "كلما زاد عدد الخدمات المقدمة إلكترونيًا ، انخفضت فرص الفساد في المؤسسة، وكلما قل الروتين انخفض خطر الفساد"، بالإضافة إلى تفعيل مبدأ "العيون الأربع" والكشف عن الأعمال غير الأخلاقية وردعها. يمكن رؤية ازدهار البلدان التي تتصدى للفساد .
وأخيراً يمكن القول إن الثقافة المؤيدة للنزاهة ومكافحة الفساد لا بد من أن تكون مبنية على الثقة (trust)- المتجذرة في المجتمع والمؤسسات والأفراد - مما يعني ضرورة توفير الحوافز والعقوبات معاً.، فمع وجود المؤشرات القمعية (مثل الإفصاح عن الأصول ، واختبارات النزاهة ، وفحوصات الامتثال ، والعقود المقيدة) يجب أن يقابلها رسائل إيجابية (مثل الأجر العادل ، وظروف العمل الأفضل ، ومكافآت الإبلاغ عن المخالفات). يجب موازنة إيجابيات وسلبيات مبادرات تخليق الحياة العامة والانتقال مع مرور الوقت من مجرد التركيز على الامتثال (منع السلوك غير الأخلاقي عبر الضوابط الخارجية من تشريعات وقواعد السلوك) إلى تسهيل وتشجيع النزاهة (تحفيز السلوك الأخلاقي من خلال الضوابط الداخلية للفرد وتدريب وتوعية الموظفين ومدونات السلوك والاستعانة بمستشاروا النزاهة).