السودان .. الحرب و"الحرب المؤجلة"
وليد شنيكات
29-04-2023 10:35 AM
ليست هناك سياسة أكثر كارثية يمكن تشكيلها أو محاولة تبنيها في بلد عاش عقوداً طوال من الانقسام والتفرقة مثل السودان، من سياسة "عبودية السلطة" أو "تقديس الحكم". ذاك لأن الاستغلال المتحيز لما يجري في البلاد من فراغ سياسي ووضع أمني هش من شأنهما تدمير ما تبقى من الدولة التي تواجه اليوم خطر التجزئة من جديد وكذلك فرض واقع ستكون له مآلات مؤلمة لها ما بعدها في الإقليم والمنطقة بأكملها.
أمور كثيرة تكشف عنها الحرب الدائرة في البلد المفتت عرقياً وقبلياً، ويهمنا منها هنا اثنان على وجه التحديد. الأول عسكرياً ويتمثل في هشاشة قدرات البلد القتالية والأمنية، وهو يبدو واضحاً إذا ما تتبعنا نتائج الاشتباكات بين طرفي الصراع وهما الجيش الرسمي، ويقابله قوات الدعم السريع ذات الخلفية "المليشياوية"، إذ لم يستطع أي منها حسم المعارك لصالحه رغم دخولها أسبوعها الثاني.
الأمر الآخر وهو الأهم برأيي وهو إصرار البرهان وحميدتي على تضييع البلاد وتسليمها للمجهول ولهما في الجارة ليبيا عبرة وهي التي ما زالت ترزح تحت وطأة الفوضى حتى اختلفوا مؤخراً على هلال العيد، فصار هناك عيدان واحد في الشرق وآخر في الغرب.
يحاول الجيش أن يشرعن الحرب بالقول إنها جاءت لتطهير البلاد من المتمردين الانقلابيين الطامعين بالسلطة، وهو محق في ذلك، إذ لا يمكن أن يحكم البلد جيشان كل يرى أنه هو الأولى بهذه المهمة. وهذه وجهة النظر نفسها التي تتبناها قوات الدعم السريع التي أعلنت نفسها حليفة لقوى الإصلاح السياسي وحامية الديمقراطية في بلد لم يعرف يوماً طعم الحرية وحق التعبير.
الصدام المسلح بين الجنرالين المهووسين بالسلطة كان متوقعاً منذ سنوات، وهو تأخر كثيراً بحكم المقاربة البراغماتية التي يتبناها كل طرف، وكان ثمة إرهاصات قوية في سنوات سابقة تمهد لهذا الصراع وهذه القطيعة منذ تشكيل مجلس السيادة الذي تولّى السلطة لمرحلة انتقالية بعد إطاحة حكم البشير، غير أنه كان دائماً يتم تبريدها إلى أن دقت ساعة المواجهة التي يتهم بها كل الآخر.
أن يقوم بإدارة السودان جيشان متماثلان في العدة والعتاد، حتى مع امتلاك الجيش النظامي سلاح الطيران المتهالك أصلاً بسبب الحصار الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود، أمر مستبعد بعد اليوم وفيه مخاطرة لا تقل أهمية عن الحرب الدائرة حالياً، وهو باختصار "حرب مؤجلة"، لأن الخلفيات التي ينطلق منها الجيشان مختلفة تماماً، فالدعم السريع جاء من مناطق قبلية وارتكب مجازر شنيعة في إقليم دارفور الذي ما زال يعاني جوعاً وتشريداً، وأيضاً بالنسبة للجيش الذي ينحاز إلى عقيدة قتالية مؤسسية في التوجه والأداء. إذا لا بديل عن المواجهة وحسم صراع الديكة مهما كانت التكاليف، وقطع دابر "الانقلابيين"، و"الخونة"، وفق رؤية عسكر البرهان.
وحتى لو قام الجيش بتأمين العاصمة في نهاية المطاف، وانسحب حميدتي إلى دارفور"فإن شبح الحرب الأهلية بات يلوح بشكل متزايد"، وفق - مجموعة الأزمات الدولية - التي تقول إن إقليم دارفور يشهد منذ يومين، توترات أمنية وحشود عسكرية غير مسبوقة ضمن الحرب التي سترسم مستقبل المنطقة من جديد.
السؤال، هل السودان مرشح أن يكرر المشهدين الليبي أو السوري بكل تجلياتهما المؤلمة في حال تطورت الأمور وانزلق نحو الهاوية لا قدر الله؟. هنا لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً لاستجلاء الصورة، ففي سوريا اصطف العالم منذ اللحظة الأولى إلى جانب الثوار والمعارضة وقدم لهما الدعم المالي والعسكري وأيضاً السياسي لمواجهة قوات النظام الذي بدأ يفقد السيطرة على البلاد التي تحولت شيئاً فشيئاً إلى ملح بارود خاصة بعد أن دخلت روسيا بكامل ترسانتها في الحرب وسمحت كذلك دولا عديدة للمليشيات الطائفية والحركات المتطرفة بالقتال داخل حدود البلاد حتى غدت مع مرور السنين كومة من الركام لا يصلح العيش فيها.
وفي ليبيا أدى تدخل "الناتو" لصالح الثوار لمواجهة نظام القذافي وكذلك حركة التسليح الكبيرة للقبائل شكل بيئة خصبة لانتشار الفوضى ناهيك عن الأزمات التي تسبب بها خليفة حفتر بعد عودته من بوابة "قيادة الجيش" من انقسامات بين القوى الوطنية في الشرق والغرب، وأيضاً حالة الاستقطاب الدولي والإقليمي بشأن الملف الليبي وخيراته النفطية، وعلى أرض الواقع هو بلد مقسم أحببنا أم كرهنا.
الغرب المنافق الذي يتباكى على مصير السودان، جاءته الحرب على طبق من ذهب لخدمة أهدافه في تطبيق سياسة "تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ" الاستعمارية، لكن هذه المرة ليس من بوابة "الربيع العربي" وإنما عن طريق الصراع الأهلي الذي امتد إلى المؤسسة العسكرية نفسها، وهو كان ينتظر هذه اللحظة لإدراكه الكبير أن جيشين لا يمكن أن يحكما في آن واحد.
الموقف الدولي الذي يحمل في ثناياه كثيراً من الشكوك والريبة عزز من حالة الشحن والانقسام خاصة بعد أن انسحب من المشهد بشكل واضح حينما بدأ العالم يجلي رعاياه وبعثاته الدبلوماسية، كما أن "سياسة الهدن" التي أطلقتها الدول الكبرى لم تكن من أجل وقف القتال وعودة الهدوء إلى السودان وإنما لنقل رعاياها بكل أمان ليس أكثر.
المستغرب هو موقف الجامعة العربية مما يجري في هذا البلد المنكوب وهي التي لم يجف حبر بيانها الختامي في جدة بعد والذي يؤكد على ضرورة عودة سوريا إلى حضنها العربي وكذلك الحفاظ على سيادتها وأمن شعبها، ألا ينطبق هذا على السودان وهو يواجه مشروع الضياع بصورة ربما تكون أشنع مما يجري في ليبيا وسوريا؟.
قرار سحب الرعايا الأجانب وحالات النزوح المستمرة من العاصمة الخرطوم يؤشر على أن الأمور تسير باتجاه التصعيد أكثر وأن الحرب ستمتد إلى مناطق جديدة وهذا واضح من خلال الاشتباكات القبلية في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، بين القبائل العربية وقبيلة المساليت التي خلفت قتلى جرحى.
السودان يعيش حالة "اللادولة"، انهيار للقطاع الطبي، وتدهور الوضع الإنساني واستمرار حالات النزوح وانفلات أمني في مناطق مختلفة في وقت العالم كله يتفرج من خلال عدسات الإعلام على مشهد الاشتباكات المسلحة وتمديد الهدن الفارغة في عاصمة "البلد المعذب" الخرطوم.