الثقافة فن الحياة والتحضر
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
26-04-2023 12:01 PM
هنالك فهم خاطئ لمصطلح الثقافة بأنها تعني القراءة الكثيرة فقط و هذا يسلخها عن موروثها الاجتماعي و المعارف الأخرى من العادات و التقاليد و هنالك خطر كامن يتمثل بأن أولويات الفرد تتبدل وفق هرم ماسلو في مراحل الصعوبات الاقتصادية بحيث ترتد الى قاعدة الهرم لتلبية الحاجات الاساسية من الطعام و الأمن و تتنحى الهوية الثقافية بما فيها من معارف و ارتقاء و تهذيب السلوك الى الهامش. أهدف من هذا المقال الى فهم صحيح للثقافة و علاقتها بالهوية الثقافية للفرد و المجتمع و الحاجة الى حراس الثقافة في أوقات الازمات لتبقى بوصلة توجيه لمكارم الاخلاق و ارتباط بالموروث الثقافي و القيم و العادات.
الثقافة في اللغة العربية الفصحى هي التهذيب (ثقف الرماح أي برئها و تهذيبها) و في الدارج تطلق خطأً على من يقرأ كثيرا كما ساوضح و هي ترجمة عن المصطلح الغربي (culture). يخلط البعض بين الثقافة التي هي صفة للفرد و الحضارة التي هي صفة للمجتمع فنقول فرد مثقف في مجتمع متحضر.
أنا أرى أن الثقافة لها ثلاث مكونات سلوكي، عاطفي و عقلي بالتالي فهي اكتساب للمعرفة من القراءة و العادات و التقاليد و الموروث الاجتماعي يؤدي الى ارتقاء الوعي و النفس و الذائقة و كليهما يقودان إلى تهذيب السلوك باشكالة المختلفة. إن نقص أي من المكونات الثلاثة ينزع صفة الثقافة و المثقف، فالشخص مهذب السلوك دون معرفة و ارتقاء هو جار طيب و لكن ليس مثقف و الفرد الذي يقرأ كثيرا دون ارتقاء في الذائقة و الوعي و تهذيب في السلوك سينتهي الى التعالي على محيطه منعزل عن الواقع متشائم و متاجرا بعثرات مجتمعه.
المعرفة لا بد أن تنهل من مصادر مختلفة من القراءة و النبيل من العادات و التقاليد و الموروث و عقائد المجتمع لان الثقافة و الهوية الثقافية هي محلية و سور حامي للمجتمع من الغزو الثقافي أما ان اهملت الموروث و المحلي تصبح مستغربة منسلخة عن واقعها سهل غزو مجتمعها و حرف بوصلته لذلك لا بد أن تشكل الثقافة هوية محلية من النبيل من موروثها لتشكل وعاءًا يستوعب القادم من الآخر ينتقي منه و يعيد تشكيله بما يناسب هوية المجتمع. غير ذلك سيكون مجتمع هش منغلق متعصب يرفض الآخر و يخاف من الاختلاف و يشكل بيئة خصبة للغزو الثقافي و زرع الاختلاف و التناحر و الفوضى.
الارتقاء بالوعي و الذائقة و النفس يكون بأخذ النبيل و طرح الغث ففي مجتمعنا العربي لنا موروث الفارس النبيل القائم على النخوة و اغاثة الملهوف و العون على عثرات الزمان و هو ما يعبر عنه في مجتمعاتنا بالنشمي و السنافي و ابن الاصل و ابناء الشيوخ و غيرهم من المصطلحات التي تشير الى مكارم الصفات من عاداتنا و تقاليدنا و ديننا و موروثنا الاجتماعي.
كل ما سبق لا بد أن يؤدي الى تهذيب القول و الفعل حكما و المجاملة و اللياقة في التعامل و في تفاصيل الحياة اليومية.
الفنون و ان كانت جزءً من الثقافة و لكنها في الحقيقة مرآة الثقافة الاجتماعية فان صعدت و ارتقت الثقافة ارتقت معها الذائقة و ارتقت الفنون و الكتابة و إن انحدرت الثقافة انتشرت التفاهة و الفن السوقي.
الصعوبات الاقتصادية و الكوارث و الحروب تغير اولويات الافراد و تعيدها الى الاحتياجات الاساسية المعيشية مثل الاكل و الشرب و البحث عن الأمن و بالتالي تصبح المعارف و الارتقاء و التهذيب خارج تلك الاولويات فتختلط معالم الهوية الثقافية للمجتمع ما لم يكن هنالك نخب تقوم على الحفاظ على الهوية الثقافية لتكون مرجعا للعامة يربطها بعاداتها و تقاليدها و موروثها من مكارم الاخلاق. الاخطر أن الثقافة تبنى بعملية تراكمية طويلة و بالتالي فإن استعادتها بعد تحسن الاحوال الاقتصادية تحتاج عملا دؤوبا و زمن طويل يعاني خلاله الافراد و المجتمع خصوصا جيل الشباب من ضياع البوصلة و الارتباط بثقافته فينتشر جلد الذات و انتقاد الموروث لصالح التعصب و التعمق في السطحية و عقدة النقص من الآخر يرافقها عقدة التعالي على المحيط.
اختم لاقول أن الثقافة عملية نهل من المعرفة باشكالها لكن مرتبطة بالنبيل من الموروث الاجتماعي الذي يقود للارتقاء الفكري و النفسي و تهذيب السلوك و ذاك يحتاج لعملية واعية تقودها النخب و الدول لتحافظ على هويتها الثقافية الخاصة التي تشكل مجتمعا متحضرًا مرنًا يقبل الاختلاف و يحترم الآخر و يعتز بذاته و يعلي قيم النخوة و الشهامة و الفروسية فينعكس على تفاصيل الحياة اليومية و الفنون و الانتاج الادبي و المعرفي.
قبل الختام أضع رأيي في الفن و مواقع التواصل الاجتماعي التي همشت الاعلام الرسمي و التي يجب أن تؤخذ بجدية في عالمنا العربي حيث أنها برأيي ليست فقط ترفيهية و لكن لها دور كبير في رسم صور نمطية لمجتمعات و توجيه للثقافة في غياب القراءة و التفكير النقدي في مجتمعاتنا. يجب أن لا ننسى أن الفن و الاعلام في مرحلة المد اليساري رسم صورة نمطية لمجتمعات مثل الاردن و الخليج العربي و صورها كمجتمعات متأخرة و متآمرة على أمتها لتكشف الوثائق بعد سنوات أن هذه المجتمعات هي من قدمت الدم و المال في سبيل قضايا أمتها دون تمنن و أن اليسار لم يكن أكثر من ظاهرة صوتية قدمت الشعارات الرنانه و أورثت الأمة الفشل و الهزائم و الظلم و الاستبداد و إنني أرى اليوم أن تيارات اليمين تأخذ الدور المشبوه الذي اضطلع به اليسار يوما و يغذي ثقافة المؤامرة و الانكار و التعصب و فتح الابواب لأعداء الأمة من خلال شعارات عمومية تلغي وجود الدول و مؤسساتها و إنجازاتها و دعمها لقضايا أمتها و أرى أن المستهدف هو نفسه الأردن و الخليج العربي.