بينما العالم الإسلامي يحدق في الفضاء أملا في رؤية هلال عيد الفطر، كان هنالك من يحدقون في السماء خوفاً وهلعاً من أن تسقط القذائف المتطايرة فوق رؤوسهم، وفي الوقت الذي كان الأشقاء ينتظرون بعضهم للعناق والتهنئة بالعيد كانوا هناك يوجهون بنادقهم لقتل بعضهم البعض، إنه السودان البلد المكلوم والذي لم يخل يوماً من حرب أو صراع ويبدو أن هذه الكلمة أصبحت مرادفة لاسم السودان، فهي في غالبها هوياتية، فتارة بين مسلم ومسيحي ووثني، وتارة قومية بين العرب والأفارقة، وتارة بين المراكز والهوامش، وتارة بين العسكر والمدنيين فقد عانى هذا البلد من خليط متناقض من الصراعات، أما هذه المرة فهي حرب بين الجيش وجيش آخر يوازيه وكلاهما يتبع للدولة .
في كل تلك الصراعات كان الجيش هو العنصر الأهم في المعادلة السياسية، فقد نشأ قبل الدولة وسار بها بعد الاستقلال عام 1956 فهو دائماً القوة الوحيدة القادرة على الحسم الخشن لأي خلاف، فلا غرابة إذا أن يحكم الجيش على امتداد تاريخ البلد منذ الاستقلال، خلال الفترة بين الأعوام 1985 حتى العام 1989 وأنهاها انقلاب البشير في العام 1989 بالتعاون مع الإسلاميين والمفارقة هنا أن انقلاب الجنرال عبود السابق عليه كان مع القوميين واليساريين قبل أن ينقلب عليهم، وهذان الانقلابان اتخذا الطابع الأيديولوجي والهوياتي، كان الإقصاء المتبادل هو السمة الأميز بينهما وهذه السمة استمرت مع السياسيين السودانيين على مدار الصراع السياسي بسبب فشل هذه النخبة في إيجاد تسويات سياسية للأزمات والعقبات التي تواجهها، لذلك عمدت دوماً الى استخدام الجيش لحسم الخلافات وهذا ما اعطاه اليد الطولى في العملية السياسية السودانية حتى الآن.
وبسبب عدم الثقة بالجيش لجأ الرئيس عمر البشير إلى إيجاد كيان مواز مستقل عن الجيش مهمته إخماد التمرد في دارفور، وبدون حسابات استراتيجية تم إنشاء هذه القوة الخشنة الموازية للجيش بحيث تكون قادرة على مجاراته، تحت مسمى قوات التدخل السريع والتي يقودها محمد دقلو المشهور حميدتي، ولأجلها تم إضعاف الجيش والقوى الأمنية مثل المخابرات بعد أن تمكنت هذه القوة وقائدها من الاستحواذ على ثقة البشير وكان يسمي رئيسها تحبباً حمايتي وهذا كناية واضحة عن ثقته المطلقة به، وفي نفس الوقت اهتزاز ثقته بالأجهزة المعنية بحمايته، وهذه الرسالة لم تلتقطها القيادات العسكرية آنذاك، والملفت أنه عندما حانت اللحظة التي يحتاج فيها البشير للحماية في نيسان 2019 تنصلت هذه القوة وقائدها عن حمايته، ليس لأنه خان رئيسه فقط بل لأنه قرأ اللحظة بعمق وأدرك أن البشير لم يعد له مكان في المستقبل بالتالي انحاز إلى الخيار الواقعي وتنازل عن فريضة الماضي، وهنا أدخل نفسه في العملية السياسية مباشرة كطرف أساسي ومهم وهو ربما يكون خطط لتلك النتيجة.
لقد تغيرت المعادلة المعمول بها في السودان فقد كانت الشراكة تقتصر على طرفين الجيش والقوى السياسية ويستخدم كل منهما الآخر لأجندته الخاصة مع هيمنة الجيش أغلب الأوقات أما الآن فهناك طرف ثالث يقاسم الجيش حصته ويكاد يتفوق عليه بامتلاكه قوة صلبة موازية له، لقد ازدادت قوة وتغلغل الدعم السريع في العملية السياسية بعد القمع العنيف لانتفاضة 3 حزيران فأصبح له اليد الطولى الآن، ففي المرة الأولى تخلى عن البشير ولولا ذلك لما سقط وفي الثانية قمع الحراك المدني ولولاه لما تراجع، صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي يتصارع فيها شريكا السلطة فقد حصل ذلك سابقاً مع الجنرال عبود والحركة اليسارية والقومية وحصل بين الترابي والبشير لكن في كلتا الحالتين كانت قوة الجيش الصلبة قادرة على حسم الصراع لصالحها، أما الآن فنحن أمام مواجهة نوعاً ما متكافئة وبالتالي النتيجة غير محسومة كما في الماضي، بالذات أن الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية ترى أن البيروقراطية العسكرية في الجيش ربما تكون مخترقة بعناصر من الإسلاميين الموالين للبشير لذلك تبدو ميالة للتعامل مع حميدتي كخيار سوداني مستقبلي يسهل التعامل معه وان من تحت الطاولة انتظاراً للحسم.
هذه المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في طبعتها صفرية لا تحتمل بقاء الطرفين معاً في نفس الوقت، فالوقائع تشير إلى رغبة كل منهما في إقصاء الطرف الآخر والاستئثار بالسلطة، طبعاً لا يمكن أن يتم تحقيق ذلك إلا بإجهاض الاتفاق الإطاري والذي يتضمن فقرات حاسمة تبعد الجيش وأي قوات عسكرية عن السلطة والسياسة، رغم أن كلا من الطرفين يستخدم الاتفاق الإطاري كحصان طروادة للوصول الى قلب الشارع رغم أن تطبيقه يحرمهما من السلطة لكن لا بأس من مناورة مؤقتة لذلك هما يغازلان الشارع ويتبنيان مطالبه، لكن في نفس الوقت ينتصر فيه أي منهما سيتحول إلى بطل قومي وهذا سيعطيه مشروعية النصر وشرعية الأمة السودانية للاستحواذ على السلطة وعندها سيكون الاتفاق الإطاري أول الضحايا.
رغم حيوية الشعب السوداني الذي يمتلك أكثر من 150 حزبا وحركة سياسية ورغم قيامه بالعديد من الانتفاضات الشعبية ربما أكثر من أي شعب لكنها استُغلت من قبل القوى السياسية ولا أجنداتها الخاصة، فأجهضت عبر تاريخ السودان الحديث كل أحلام هذا الشعب ومارست لعبة القط والفأر مع المؤسسة العسكرية على حسابه، أما الآن فإن الشعب هو ضحية صراع الفيلة والذي سيؤدي إلى طحنه على عشب الحلبة رغم أن كليهما يعتبر وسيلته للوصول لكن هذا الصراع سيجعل السودان مقيداً لمصالح الآخرين كل ذلك بسبب نخبة فشلت تماما في التوحد لمصلحة السودان بل أعلت مصالحها على كل غاية أخرى بينما السودان يدفع الثمن الغالي، لذلك فإن السوداني هو الوحيد القادر على الثأر لسودانيته المجردة من كل الانتماءات والانتقام لعيده الدامي برفض الحرب وتوحيد الجيش تحت لواء واحد ليس انتصاراً لأي أحد بل انتصاراً للسودان الواحد الموحد وهذا لن يتم إلا بثورة جديدة سلمية تُعلي السودان وتُسقط الآخرين وتخرج رغم الحرب ضد كل من استباح دم السوداني ولطخ عيده بالدم والألم.
الغد