للمرة الثانية، في فترة متقاربة، نكتب عن الشيخ نوح. لكن هذا المقال بمناسبة توديعه إلى العالم الذي عمل جيّداً حتى يصل إليه بسلام وسكينة.
خسرنا عالماً جليلاً ربانياً، أمطر الله حبه في قلوب الناس، ومن ثم مع مجتمعه ووطنه، نحسبه كذلك والله حسيبه.
أمّا السؤال الآن فهو: ماذا بعد الشيخ نوح؟..
ميزة الرجل الرئيسة، خلال المواقع الدينية الرسمية التي تسلّمها، أنّه استطاع أن يخلق لها استقلالية واضحة، ما منحها احتراماً وتقديراً خاصاً خلال توليه لها، ابتداءً من موقعه في "الافتاء العسكري" إلى توليه "مفتي المملكة" بعد إقرار قانون الافتاء، وتوسيع نطاق عمل الدائرة ونشاطها الفكري والفقهي.
الرجل كان يدرك تماماً أنّ موقع المؤسسة الدينية لدى الناس يخضع لمدى استقلاليتها وحفاظها على سمعتها واحترامها لدى الغالبية، وترسيم الخطوط الفاصلة والواضحة بينها وبين المواقف السياسية المتقلبة.
الشيخ نوح ابن مدرسة فقهية وصوفية تدرك تماماً أهمية استقلالية العالم والمفتي، ليس فقط لنفسه بل لدينه ولأمته ووطنه.
والشيخ هو رجل دولة من طراز رفيع عمل في بناء أهم مؤسساتها الدينية، ويدرك أنّ من مصلحة الدولة والحكومة ألا تبدو المؤسسة الدينية ملحقاً ثانوياً هشّاً بالمؤسسة السياسية.
وبالرغم من عمل الشيخ نوح في مؤسسات حسّاسة، في الجيش، وتمكّنه من توسيع رقعة دائرة الافتاء ودورها الحيوي ونشاطها المنهجي فيه، وبالرغم كذلك من أنّه تسلم موقع مفتي المملكة، إلاّ أنّ الأردنيين لا يذكرون للشيخ أيّ موقف أو تصريح فيه تملق أو نفاق أو حتى مجاملة في غير موضعها. فقد حافظ على هيبته وسمعته وعلى الإمساك بالرسالة التي ورثها من مدرسته الفقهية والصوفية الزاهدة في متاع الدنيا المتجردة من أوسمتها، حتى ولو علت صدره!
تعرّض الشيخ لامتحانات كبيرة وأثبت جرأة وجلداً واحتراماً لذاته، وقد استنكف عن تقديم الفتاوى الدينية التي طلبتها منه المواقع السياسية العليا، في أوقات حرجة وحسّاسة، وانسحب أكثر من مرّة بهدوء إلى الظل، ولم يشبع الناس حديثاً عن بطولاته ومواقفه، بل بقي صامتاً حتى مماته.
تلك هي الرسالة التي يجدر بالمفتي العام الحالي التقاطها من الشيخ نوح، وقد تخرّج من المدرسة نفسها التي بناها الشيخ رحمه الله، أي دائرة الافتاء في القوات المسلحة، فلا يعجّل بالفتوى لإرضاء أهل السلطة، ولا يجعلها مطيّة لأغراض الحكومات، ولا عجلة تدور مع تقلبات السياسة، فتفقد مؤسسة الافتاء مكانتها وقيمتها، وتصبح بلا أي معنى، وتتحول إلى عبء على الدولة، بدلاً من أن تكون عوناً لها في القيام بمسؤولية مهمة وأساسية.
فكرياً، أقتربُ من المدرسة الفقهية المرنة، كالشيخ علي جمعة ود. يوسف القرضاوي ود. أحمد الطيب، وناقشت سابقاً النزوع المحافظ في الفتاوى الأردنية عموماً.
إلاّ أنّ الشيخ نوح، أحد أعمدة المدرسة الفقهية المحافظة، يخدم المجتمع والدولة والناس اكثر بكثير من مدرسة فقهية مرنة، لكنها منفلتة من القيود الأخلاقية، وقبل ذلك الشرعية، فهو يعلم أن بضاعته -"الدين"- لا يجوز أن تكون عرضة للبيع والشراء! ذلك هو أثر الرجل الطيب، الشيخ نوح القضاة – رحمه الله-.
m.aburumman@alghad.jo
الغد