في اللحظة التاريخية التي نعيش ودخول الرؤية الاستراتيجية بالغرفة المعتمة، تصبح القدرة على الاستخلاص مسألة صعبة وكذلك حالة تقدير النتائج في خانة ضمير مستتر تقديره يعود للمنتصر القادم، وذلك نتيجة ضبابية المعركة العالمية المشتعلة الناتجة عن عجاج الحرب.
وبسبب ضبابية الحال التي تحيط بعناوين المعركة بأوكرانيا والتي بدأت تداعياتها تمتد لتشمل اليابان واستراليا وفق حركة تسليح نووي ودرجة استقطاب حادة طالت منطقة الشرق الأوسط فإنه يتوقع ان تصل درجة الانقسام بين التيار التعددي المناوءة لأحادية بيت القرار لحد الصدام الموسع.
وبهذا تكون البشرية قد دخلت بحالة عدم يقين بسبب كثرة الضباب السياسي والعسكري الناشىء حول الحرب العالمية التي من مركز تشكلها بأوكرانيا لتطغى على جوانب المشهد العام الكثير من التكهنات وكما وتغطى غيومه العديد من الاستفسارات للدرجة التي جعلت من ميزان الايقاع العام يبدو متأرجحا وغير ثابت بعد حالة الانقسام الذي طرأ في بيت القرار الدولي بين مؤيد للتعددية القطبية وآخر ملتزم بالمرجعية الأحادية ..
الأمر الذي جعل من الخطة التاريخية التي نعيش مرحلة مفصلية فاصلة بين اتجاهين بحدين، ينتظر أن تحمل تداعياتها نتائج عميقة للأجيال القادم تماما كتلك التي حملتها الحرب الكبرى التي تعرف بالحرب "العالمية الأولى والثانية" وهي الحرب التي راح ضحيتها أكثر من 100 مليون إنسان وكما أفل على آثرها نجم إمبراطوريات كبيرة كانت تعد تاريخية مثل الإمبراطورية البريطانية والهنجارية النمساوية، والإمبراطورية العثمانية والقصرية الروسية، وبزغ نجم الإمبراطورية الأمريكية وهي الحرب التي كانت قد اندلعت اثر حادثة اغتيال ولي عهد النمسا السابق وكانت التوافقات في حينها تشير بأن معركة ستكون محدودة ولأيام معدودة .
لكن هذه التوقعات كانت غير صحيحة والمعركة التي كان يتوقعها البعض آنية ومحدودة تحولت لحرب كبرى حملت نتائج تاريخية عندما شاركت فيها معظم الدول بطريقة مباشرة وغير مباشرة وكانت أيضا بين اتجاهين ولم يتسنَ للمتابعين استنتاج مآلات الحرب إلا بعدما انقشع عجاج الحرب وظهرت نتائج المعركة للعيان وتبين للجميع أن العالم كان قد دخل بمرحلة تاريخية فاصلة.
إلى أن استطاعت البشرية إعادة تشكيل قوامها بعد 31 سنة من اندلاع عجاج الحرب الكبرى التي بدأت بالأولى وانتهت بالثانية وكان من أبرز نتائجها تشكيل نظام جديد للضوابط والموازين بتشكيلاته وأنظمته وخطوط نفوذه والتي جسدها نظام الأمم المتحدة بحلته الحالية من اختلاف ميزان قوة النفوذ في مراحل تالية، وذلك مع دخول البشرية فيما بعد بالحرب الايدولوجيات الفكرية بين معسكرين احداهما اشتراكي والاخر رأسمالي إلى الحين الذي أعلن فيه غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي تفكيك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الاستخبارية الباردة، قال السياسيين في حينها كما قالوا بعد نهاية الحرب العالمية الكبرى إن المشهد العام لن يكون كما كان عليه بالسابق ..
وهذا ما تم أيضا بحادثة أبراج منهاتن فيما بعد! وكذلك الأمر عندما أدخلت البشرية بمناورة كورونا البيولوجية!، وهي ذات العبارة التي يستخدمها السياسيين بهذه الاوقات بالحرب الاوكرانية فهم يجمعون على ثابت، بأن العالم لن يكون كما كان، لكن ليس لأحد منهم توقع أو تنبؤ يفيد لاستخلاص النتائج، وذلك بسبب دخول الجميع بالغرفة المعتمة التي يشكلها عجاج المعركة.
ولأن من طبيعية الحروب إسقاط القوانيين واختزال القيم والمبادىء بخنادقها فإن العمل للتعاطي مع هذه الظروف بحسن استدراك يصبح خير مانع كما أنه يشكل خير رادع لانتشار ثقافة القتل والتدمير كونها بالمسألة تقديرية تصبح مفيدة وصحية من منظور عسكري، علاوة على ذلك فإن درجة الاصطفاف تصبح ملزمة لدواعي الحماية الوطنية والاقليمية والدولية، وهو ما ينتظر أن يجعل من الحدية بالتعاطي والتعصب بالتوجه والاتجاه تطغى على المشهد العام بكل تفاصيله الأمر الذي يجعل من التعبئة أمر ملزم بالتوازي مع الانضباط والتوجيه كونهما يشكلان برنامج عام يعزز من الرابط العقدي لتحقيق حالة مناعة مجتمعية.
ولأن مراهنة الدول ذات الامكانات المحدودة تعتبر باللحظات التاريخية مسألة مصيرية قد تذهب بالدولة والجغرافيا السياسية معنا وتبعثر المجتمعات فإن توخي الحيطة واليقظة بالتعاطي يصبح أمر واجب للجميع لاسيما لتلك الدول التي تحمل رتبة جيوسياسية اقليمية كونها مستهدفة من عملية الاستقطاب التي تعيشها دول المنطقة هذا ما ينطبق على السعودية ومصر كما على إيران وإسرائيل كما تركيا في آسيا الوسطى، والأمر ذاته ينطبق على باكستان والهند كما على البرازيل وفنزويلا، وهي جميعها بمقياس التجاذب الناشىء بمجتمعات متحركة .
صحيح أن دول المنطقة قد اتخذت قرارا ضمنيا من شأنه تحقيق معادلة صفرية بميزان العداوة أو الخصومة السياسية إلا أن مؤسساتها مازالت متحركة وغير متجانسة وهذا بسبب أطوار التنسيق الأمني وخطوط جوانب التعاون العسكري وهذا ما بحاجة إلى حواضن سياسية داعمة تجعل من هو "متحرك أهواءه ثابت مقامه بالرابط الذاتي" .
وهذا ما يمكن مشاهدته بالحالة السودانية بين الجيش والمخابرات التي وصلت أوجها، كما يمكن ملاحظة مع حفظ الفارق والمقياس عند رصد حركة التحول بالمجتمع الاسرائيلي بين معسكر "الحرديم الديني الحكومي" ومعسكر الجيش العلماني الذي أصبح في قياس العام يمثل صوت "المعارضة" بعد الزج بقانون القضاء لتمكين رئيس الحكومة وتقديم قانون خلاقي آخر يقوم بتوسيع دائرة نفوذ الصهيونية الدينية عندما يتم استبعاد مراكز الحريديم من الانخراط بالتجنيد الإلزامي ..
وهو من شأنه أن يقوي من شدة الاستقطاب الشعبي للمؤسسة الدينية طبعا على حساب المؤسسة العسكرية وهو أيضا ما ينذر بتداعيات كبيرة تطال تحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى مسألة دينية عقائدية وهذا من شأنه تهديد السلم الاقليمي ، بدلا أن تقوم إسرائيل بالدخول في مرحلة تصالح مع الذات ومع مجتمعات المنطقة بما يجعلها تصبح جزءا منه بدلا من سياسية "القلعة الدينية" التي تتخذها للحماية الذاتية ...
وهذا ما يجعل من سياساتها تحمل علامة استهجان واستفسار في آن واحد في ظل محاولات الحكومة الاسرائيلية الاجتهاد لتصدير أزمتها الداخلية تارة بافتعال مشاكل مع المحيط الفلسطيني وتارة أخرى بالبحث عن صيغ وذراع تتحدث عن تهريب لأسلحة ونسيت إسرائيل أن سياساتها المتبعة تخلق حالة استفزازية لشعوب المنطقة تماما كما تستفز بها الشعب الاسرائيلي الذي مازال يخرج بمئات الآلاف مطالبا حكومته بالرحيل ....
وبدلا من أن تعيد إسرائيل إنتاج سياساتها لتكون منسجمة مع مناخات المنطقة تبحث عن وسائل تعرقل من سبل التقدم السلمي بين بلدان المنطقة بمحاولة منها بتنفيذ "الاتفاقات الإبراهيمية" دون إرساء حواضن عمل مقبولة للقضية الفلسطينية وهي القضية التي ما زالت مركزية عند كل مجتمعاتها لذا كانت مسألة الالتفاف عليها مسألة غير موجودة بقاموس أنظمتها وهذا بينه الموقف الأردني وأكد عليه بكل المحطات السياسية والأمنية فإن للمنطقة (خطوط حمراء) لا يجوز تجاوزها لا بالسياق العام ولا بالرسائل التي أرسلها بن غفير في القدس وسموريتش في الخارطة ؟! .
وفي سياق متصل، يأتي عقد القمة العربية القادمة التي بدأ التحضير لها طيلة شهر رمضان بلقاءات متعددة وأخذت أنماط وأشكال أمنية وسياسية، حيث تركزت هذه اللقاءات على أهمية إنجاح القمة العربية بهذا التوقيت كونها تأتي بظروف استثنائية وفي خضم ظروف وعجاج حرب عالمية! .