الأردن الجديد ومعضلات التحوّل السياسي
23-04-2023 05:20 PM
لدى الأردن تحدّيات عديدة باتت معروفة لكلّ من يعرف القليل عنه، من بطالة وفقر وديْن عام مرتفع وشحّ في الموارد، ولكن لديه، في الوقت نفسه، فرصٌ كثيرة في التنمية والموارد البشرية والسمعة الدوليّة التي بناها الأردن بفعل قدراته على البقاء في دائرة الاهتمام الدولي وعقلانية الحكم، وفي بقائه مستقرّاً بالقدر الذي سمح للدولة، بمفهومها العميق، أن تمارس عمليّة تطوير وتحديث ممنهج، وبناء شبكةٍ من مفاهيم التحديث والدمقرطة المقبولة في ظلّ جوار غير ديمقراطي، بالإضافة إلى قوة المعرفة التي تتمتع بها الكفاءات الأردنية في شتّى المجالات.
لم يحدُث ذلك كله من قلة موارد الدولة، بل من القدرة على إدارة الندرة والتكيّف مع الأزمات عبر مائة عام من الزمن الطويل أردنياً، وهي أزماتٌ جلّها بفعل الإقليم، وأهم نتائجها تضخّم السكان والطلب على الخدمات، ما صاحبه تضخيمٌ للدولة بالمعنى المؤسّساتي ومطالبة الأفراد بالعيش بشكل أفضل، ولاحقاً لذلك التوسّع في التعليم وشبكة التأمين الصحي والطرق. وللأسف، صاحَب هذا كله في العقدين الأخيرين نمو فكرة انسحاب الدولة من القطاع العام والتوجّه نحو الخصخصة.
يتمتع الأردن ببنية اجتماعية متعدّدة صلبة، تكونت من التقاء بنيتين ثقافيتين من المجتمعين الفلسطيني والأردني الذي اتحد في دولة الوحدة الأردنية الفلسطينية بعد عام 1950، والتي أتت أكلها في صناعة التقدّم الأردني وفي مواجهة التحدّيات. ولم تتضخّم دولة في المنطقة من حيث عدد السكان بفعل الهجرات التي اكتسبتها عبر أزمات الإقليم، ولم تكن هناك استجابة مماثلة، كما الأردن، الذي فعل، حكماً وشعباً، مع كل من وفد إليه. وقد صاحب هذا كله التزام من الحكم بدعم عمليّة التحديث المجتمعي وإحداث التنمية التي كانت تعويضاً عن صعوبة التقدّم كما يجب في المسار الديمقراطي.
العمليّة السياسيّة في الأردن تشهد تحولاً في السلطة وفي ممارسة السياسة
ليس المقال هنا لتعداد فضائل الدولة الأردنية، لكن تحليل واقعها اليوم بما يعتريه من إحساس بإمكانية أن تكون أفضل يقتضي تحديد عناصر القوة والضعف، فمع وصول الدولة بعد عام نحو انتخاباتٍ جديدةٍ بنكهةٍ حزبيةٍ مقرّرة في القانون الجديد، تنتهي بعد ثلاثة مجالس بنسبة تقارب نصف عدد أعضاء المجلس النيابي، فهذا معناه أن العمليّة السياسيّة تشهد تحولاً في السلطة وفي ممارسة السياسة. ولكن السلطة التنفيذية ستبقى، حتى ذلك الحين، معيّنة من الملك، وهي التي تُمسك بالقوة اللازمة للتدخّل في حياة الناس. بيدَ أنّ تحدي تحوّل السلطة في الأردن نحو ديمقراطية حزبيّة برامجيّة تواجهه معضلة عدم تحوّل المجتمع في السياق التداولي ذاته للسلطة، فهو مجتمع تقليدي في السياسة، برغم ارتفاع التعليم فيه، والتحرك فيه انتخابياً يتأثر بالحواضن الاجتماعية العائلية والقبلية والجهوية.
ولدى الأردن تعليم وخدماتٌ صحيةٌ متقدّمة، لكن فيه معضلة الفائض في الكفاءات التي لن تكون قادرة على العمل بشهاداتها، ولن تجد فرصاً في العمل في السوق المحليّ أو في دول الخليج كما كانت سابقاً، في ظلّ استدارة تلك الدول نحو توطين وظائفها بيد أبنائها، وهو حقّ لها. وهنا يحتاج التعليم العالي وما قبله في الأردن إلى جراحة عميقة لمعالجة الخلل القائم.
في الاقتصاد، ثمّة بطالة مرتفعة بنسبة عالية، وصناعات تحويلية قليلة، والتعدين فيه لا يؤثّر كما يجب، فالشركات الكبرى للفوسفات والبوتاس تكتفي برفد الخزينة بنحو ثلاثمئة مليون دينار أو أكثر قليلاً من الضرائب والرسوم، وهي مخصخصة ومجالس مغلقة على الكفاءات، ومعدّل النمو المقدّر بنسبة 2,7% لا يمكنه الإسهام في معالجة تحديّ البطالة المتنامي، ولعلّ إصرار الفرد على الوظيفة العامة الآمنة ما يجعل التعديل في الرغبات أمراً صعباً لطالبي الوظيفة العامة، فكيف يمكن تحويل تلك الكتلة الكبيرة من الشباب المتعلم نحو مفاهيم الحرف والمهن والمشاريع الصغيرة.
تتعمّق السلبية في أوساط المجتمع الأردني وخطابه، مع ارتفاع مستوى الفقر وتدنّي فرص الحصول على وظائف حكومية
يقدّم الأردنيون أنفسهم شعباً عروبيّ الانتماء، محافظ جداً برغم مظاهر اللبرلة فيه، وهم يعتبرون أنفسهم جسراً عابراً فوق الزمن السياسي لمؤسسة الدولة، التي يرون أنهم حموا بقاءها ودافعوا عنها. وهنا يأتي دوام الحديث عن العشيرة والقبيلة، ويجب توظيف القيم العالية لهذه الصيغة في الحفاظ على السلم المجتمعي والاستقرار، لكنها يجب أن تُعدّل لصالح نفاذ الدولة ومؤسّساتها وسياساتها نحو العمق الاجتماعي لتفعل فعلها التحديثي فيه.
فرضت السياقات العامة للتحوّلات الأردنية عبر السنوات الأخيرة إيقاعاً جديداً، فثمّة تحدّ كان عابراً، تمثل بالربيع العربي ومخلفاته. وهنا، تطوّر تحوّل المجتمع نحو الانفتاح والنقد، والذي كان عالياً مع بداية الربيع العربي، تطوّر اليوم إلى حالةٍ من الصمت واللوذ بالبحث عن ظروف أفضل للعيش بعد سلسلة دروس في البلاد العربية المتوترة والمنقسمة على شعوبها.
في ظلّ هذه الحالة، كانت النخب أقرب إلى خط الدولة، وممارسة دور الوسيط، للإبقاء على مجتمع مستقر ودولة راعية، وهناك فرضية مصدرها فكر ميكافلي الذي يقول إن الشعب يميل إلى السلبية، وهذه السلبية حاضرة اليوم في مقارنات العيش الأردني وفي القضايا العامة، وفي النظرة إلى كل ما يأتي من الدولة.
وللأسف، تتعمّق السلبية في أوساط المجتمع الأردني وخطابه، مع ارتفاع مستوى الفقر وتدنّي فرص الحصول على وظائف حكومية، وفي وقتٍ تقول الحكومات إنها لا تستطيع توفير أكثر من ثمانية آلاف وظيفة سنوياً، فإن نحو ستين ألف طالب جامعي يتخرّجون سنوياً يضافون إلى قوائم الباحثين عن العمل.
تحدّي تحوّل السلطة في الأردن نحو ديمقراطية حزبيّة برامجيّة تواجهه معضلة عدم تحوّل المجتمع في السياق التداولي ذاته للسلطة
في التحوّل نحو الديمقراطية يُفترض أن الشعب يرى نفسه صاحب السيادة كما يقول الحكيم أرسطو، لكن الحالة الأردنية يبدو أنها تباعد مفهوم السيادة إلى الانحياز لمفهوم الرعاية. ولذلك لا يرى كثيرون أن ثمّة أهمية لبقاء نخبة أوليغارشية بيدها كل شي: الاقتصاد والتمثيل السياسي الشعبي في البرلمان أو الوظائف الكبرى في المؤسّسات، وبأي صيغة متاحة (كوتا حزبية، أو دوائر محلية أو وطنية أو بدوية أو تمثيل جهوي)، فالمهم ليس الزعامة السياسية أو الممارسة التمثيلية، بل الأهم تحقيق المصالح والطلبات الضاغطة على الحكومات.
وفي الاتجاه نحو الحياة الحزبية الجديدة في الأردن، اللافت أن انشغالات الجمهور المنتسب للأحزاب ليس في إنتاج زعامات سياسية جديدة، بل في كيفية إدارة المصالح والمكاسب، وقلة تتناغم مع مقولة التحديث بشيءٍ من الإيجابية. وهنا يمكن القول إن جمهور الشباب العريض، والذي يعوّل عليه أردنياً، غير معني بفكرة حزب الزعيم أو البرنامج، بقدر ما ينتظر نمواً طبيعياً لفكرة الحزبية في المجتمع لإيجاد حالة تعريف جديدة نحو دولة المواطنة، في بلد يسير نحو الديمقراطية في ظلّ مناخ إقليمي غير مرحب بذلك كثيراً، وهو بلدٌ فيه منسوب من الحرية السياسيّة أفضل من غيره في الراهن العربي.
وهنا، تكون الفرصة أفضل للأحزاب الجديدة المتشكّلة ليس من نخبٍ وظيفيةٍ سابقة، بل من أشخاص وذوات معنية بأردن تقدّمي عصري. وهي وإن كانت ستواجه صعوباتٍ كبيرة بتغيير فهم المواطن نحوها، إلا أنها قد تكون الشكل الأفضل للتعبير عن إرادة الناخب الأردني في المستقبل، وهذا معقد الرجاء في بلدٍ قليل الموارد، بيد أنه يعيش بمستويات عيشٍ أفضل من غيره ممن يمتلك موارد أفضل.
"العربي الجديد"