الجيش العربي .. شمسٌ بين ضفتي النهر
د. فراس الجحاوشة
20-04-2023 10:45 AM
سأبوح لكم اليوم عن جيشنا الأردني العربي، سأحدثكم بشيءٍ عمّا عرفته عن عقيدته، من الضابط أبي، ومما اختبرته بنفسي لما خدمت في صفوفه ضابطا وطبيبا.
ما حركّني لكتابة ما ستقرؤونه، هو المشاهد المؤلمة التي تجري في السودان، ذلك الاقتتال الدموي المحزن بين أبناء البلد الواحد، والأكثر إيلاما أن التصادم يقع بين العسكريين، أعرف أن أبعاد هذا الموضوع معقدة جدا، لكنني أتحدث كمواطن عربي يؤلمه أن ينظر من بعيد إلى السودان، فيرى أن الجيش يقتتل مع نفسه، وإني أدعو للسودان وأهله أن يطمئن الله قلوبنا عليهم ويقيهم كل شر.
لما رأيت ما وقع في السودان ، ثارت ذكرياتي مع الجيش العربي الأردني، وتلمست عقيدته المنقوشة على صدري، فالعقيدة العسكرية لهذا الجيش المصطفوي تقوم على منطق يتجاوز السياسة وتعقيداتها.
فليس لهذا الجيش يدٌ تمتد إلى ثروة أو مكتسبات أو سلطة، بل له يدٌ تحمي وتحرس، وتؤمّن البلاد والعباد، وبين هاتين اليدين فرقٌ شاسع، عرفنا حدوده بالأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة.
الأجمل من ذلك، أن جيشنا العربي "ومجرد اسمه يعتبر عقيدة"، في داخله مناراتٌ أخلاقية وعروبية شواهدها في كل مكان، وهناك مناراتٌ أخرى غير معلنة، ولم أكن لأعرفها لو أنني لم أتشرف بالخدمة في صفوفه.
عندما تشرفت بالخدمة طبيبا في الخدمات الطبية الملكية، عرفت أن الأردن هو من الأكثر مشاركة بين دول العالم في المشافي الميدانية حول العالم، فضلا عن وجود مركزين طبيين في رام الله وجنين، ومستشفى ميداني في غزة، كما أن مساهمات الأردن مسجلة كحق امتياز إنساني في تاريخ البشرية الحديث.
من عام 2007 إلى 2009 كنت ضمن بعثات المشافي الميدانية في العراق وأفغانستان وليبيريا، ومثلي مثل زملائي ممن تشرفت بالخدمة معهم، كنا نتقاضى راتبنا المنتظم مضافا إليه مبلغ مالي كمكافأة شهرية بدل الخدمة الدولية.
وقبل استقالتي من شرف الخدمة العسكرية بقليل، تم تنسيبي للخدمة في المستشفى الميداني في غزة، ومع أني لم أحظ بشرف تلك الخدمة العظيمة، لكن الأكثر تميزا وما لا يعرفه الكثيرون، هو أن كل من يخدم في فلسطين من منتسبي القوات المسلحة في بعثاتنا الطبية، لا يتقاضى مكافأة دولية!.
وقد لفت انتباهي الأمر، وحين سألت عن ذلك الموضوع أيامها، جاءني الرد من الجيش "بشكل غير رسمي وبكل عفوية صادقة"، أن القوات المسلحة تعتبر الخدمة في فلسطين مثل الخدمة في الأردن، وأن تقديم العون للأهل في الضفة الغربية والقطاع هي تماما مثل تقديم العون للمواطن الأردني، فهي واجبٌ مقدس تعتنقه القوات المسلحة عقيدةً ثابتة، تؤمن أن غرب النهر مثل شرق النهر، والناس فيه جزء من مسؤولياته ضمن حدود الممكن الذي تؤطره السياسة.
هذا ليس من الأسرار العسكرية التي لا يجب البوح بها، بل شهادة اعتزاز بعقيدة رسخت وتجذرت في داخلي، مثل سيرتي الذاتية صارت كتابا منقوشا في وجداني أسلمه لأبنائي.
من هذا الأساس الراسخ في داخلي، فإني لا ألقي إلا بالأسف على "العبث العنصري" الذي يلف أحيانا الصالونات الافتراضية في مجتمعنا الأردني الواحد، فهذا وطن واحد ننشده موالا في القلب على مقام الصبا، قراره عمان وجوابه القدس.
في بعض الأحيان عندما أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أرى كثيرا من المهاترات الساذجة، والمزاودات غير الصحيحة، والجدالات العقيمة، التي تشعلها مبارة كرة قدم مثلا، أو منشور كتبه أحدٌ من أصحاب القلوب السوداء، وتبدأ بعدها "العنصرية الخبيثة" تنتشر كالنار في الهشيم، مع أن المتمعن في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا يعرف بما لا يدع مجالا للشك، أن قاطني ضفتي النهر توأمان، ولدا من رحم واحد، وجابها مخاضا واحدا، ومستقبلهما واحد.
فالتوأمان الأردني والفلسطيني صاحبا لغة ودين وثقافة وتاريخ وتراث متداخل ومشترك حتى صميم القلب، يئنان لذات الوجع ويفرحان لذات السبب، واختلطت دماء شهدائهما على ذات الأرض، وتصاهرا حتى باتا كجذع شجرة أصلها ثابت لا يتزحزح، وثمرها طيبٌ عذبٌ كريم.
وليس هناك سبب حقيقي لتجاوز أي تحديات أو أذى لا سمح الله، ولا لبناء مستقبل واعد على ضفتي النهر، إلا بالوحدة والتماسك والترابط الوثيق، وترك ما وصفها المصطفى صلى الله وعليه وسلم بالمنتنة، ولنا في دول الجوار "سلّمها الله" خير مثال وحكمة نأياً عن كل شر ومكيدة.