ما يحدث في السودان منذ أيام لا يمكن النظر إليه كحدث ربما يكون عاديا في السودان استنادا إلى تاريخ هذا البلد، وما مر عليه من صراعات، فالصراعات هناك كانت عبر العقود الماضية متمثلة بانقلاب العسكريين على المدنيين، وكان يتم الحسم بوقت قصير، أما هذه المرة فالصراع بين العسكر أنفسهم، الأمر الذي يزيد من خطورة الأوضاع، ويزيد من حدة الصراع، لأن الطرفين كل واحد منهم يسعى للاستفراد بالسلطة دون الآخر، وهو مستعد أن يخوض حربا طاحنة لكسب الجولة، وكلاهما يمتلك من السلاح ما يمكنه من إطالة الحرب قدر ما يمكن لحسمها لصالحه.
هذا الوضع المعقد والمأزوم في السودان إن استمر على هذا النحو، فإن انعكاساته ستكون خطيرة وتهدد الأمن القومي العربي والإفريقي إلى حد كبير، خصوصا الدول المجاورة للسودان، لأنه كلما زاد أمد الصراع، ضعفت معالم الدولة واختفت وتحول الصراع إلى حرب أهلية، وهذا وضع مغرٍ بشكل كبير للتنظيمات الإرهابية عابرة الحدود للتسلل إلى السودان لمحاولة تنظيم صفوفها واعادة تموضعها من جديد لتنطلق في موجة جديدة من الإرهاب ضد أبناء السودان والدول المجاورة، ومن غير المستبعد إن استمر هذا الوضع هناك أن نرى تجربة مماثلة للتجربة الليبية، حيث الإرهاب والانقسام وإذا التقى هذان الأمران فاقرأ على الدولة السلام.
الصراع في السودان بين العسكر أنفسهم الذين انقضوا على ثورة السودانيين قبل سنوات وجعلوا أنفسهم أوصياء على البلاد والعباد، ونكثوا في ووعودهم باعادة السلطة إلى الشعب، ليختار ما يريد، من المحتمل أن أطرافا خارجية تحركه، وإذا كان هذا الاحتمال واقعا وموجودا فإن الصراع حتما سيطول ويتعقد، وستصبح أحداث السودان حرب منسية، ساعتها سيكون الضحية السودانيين أنفسهم الذين دفعوا أثمانا كبيرة من أمنهم واستقرارهم بسبب أحلام العسكر ومغامراتهم، ولن يسمح لهم بالتقاط أنفساهم لبناء دولتهم التي يريدون، مع أن ثروات بلادهم تؤهلهم بأن يكونوا أصحاب دولة مستقرة وناجحة بكل المقاييس، فالنفط والمعادن وعلى رأسها الذهب ووفرة المياه والزراعة والمساحة الجغرافية الواسعة كلها تشكل أسسا حقيقية لبناء دولة حديثة وقوية ومستقرة، لكن الصراعات هناك أنهكت واستنزفت وقتلت حلم السودانيين في بناء دولة يستحقونها.
من غير الممكن أن يظل الفعل العربي والدولي إزاء ما يمر به السودان لا يتعدى البيانات والاتصالات المتقطعة مع طرفي الصراع، خصوصا على الجانب العربي، حيث يجب أن يكون للعرب فعلا حقيقيا على الأرض لإنقاذ الوضع وحماية الشعب من صراع عبثي .
من المرجح أن مصر بالذات لن تظل تراقب فقط، لأنه إذا توسع الصراع وانفلت أكثر من هذا، فإنه يشكل تهديدا لأمنها الوطني، على الأقل بحكم الجغرافيا، ناهيك عن موجات اللاجئين إن استمر الصراع إلى الأراضي المصرية طالبين الأمان، لذلك من المتوقع أن يكون تحرك القاهرة في الأيام القادمة تحركا قويا وفاعلا، لمحاولة محاصرة الأحداث المتفجرة بأسرع وقت ممكن قبل أن تزداد الأمور تعقيدا ووصولها إلى لحظة اللا عودة، حفاظا على أمن المنطقة وأمن السودانيين أنفسهم، لأن القاهرة تدرك بعمق وبحكم تجربتها الطويلة بمكافحة الإرهاب ومواجهته أن الأوضاع في السودان ستكون مغرية للإرهابيين، فهؤلاء أينما يكون الفراغ والفوضى يطلون برؤوسهم كما اشرت.
على المستوى الدولي، يجب التحرك بسرعة وإسناد أي تحرك عربي وفعلي لمحاصرة الحريق ومنع امتداده والتلويح بالقوة والعقوبات على طرفي النزاع إذا لم يعودا إلى طاولة المفاوضات، أو ينسحبوا بالكامل من الساحة السياسية ويعيدوا الأمور إلى القوى السياسية المدنية.
من عجائب الأمور أن الذين كانوا ضد ثورة الشعب السوداني التي أطاحت بالنظام السابق يتسارعون الآن لقطف ثمار هذه الثورة، والاستفراد بالسلطة وأصحاب السلطة والثورة الحقيقيين أنفسهم أصبحوا وقودا بحرب لا ناقة لهم بها ولا جمل، وحقيقة أن من يتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية ما يحدث الآن القوى السياسية المدنية في البلاد التي طغت عليها الخلافات حتى أغرت العسكر بالسلطة وملأ الفراغ وظلت الأمور تتدهور هناك إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه.