لم تكن الثلاث أعوام التي قضيتُها في رحاب هذا البلد الآمن كافية لي لاستكمال الصورة الذهنية الكاملة عنه، الصورة التي ما لبِثَت أن لامَسَتْ قدماي ثراه الفضِّي حتى بدأتُ بإنشائها، قد ننقاد بحكم العادة أحيانا الى التصديق بأن منظورنا للأشياء ما هو إلا ترجمة لما نتلقاه من ذلك المحيط عبر أسماعنا ومشاهداتنا البصرية الحية.
هنا أتوقف قبل الاسترسال للتأكيد على أمر ليس من ضرب التكهن والخيال، بل جزءٌ متأصلٌ في روح كل من كان منصفاً متحررا من الأنا الواهية التي تنزع إلى تصدير الأحكام المبنية على التعميم المتسرع والإنفعالات ورَدَّات الفعل الشخصية، فكل ما سأوصفه إنما رصدْتُه بعين الوجدان العُليا، بنظرةٍ إنسانية تترفع عن أي شكل من أشكال الإنحياز أو حتى التشخيص، نظرة وضعت في صميم اعتبارها موروثاً ثقافياُ تعاقب من جيل إلى جيل على بقعة من الأرض لما يزيد عن قرنين ونصف من الزمان.
أجل، فالكويت هناك في قمة الجزيرة العربية المتاخمة لخليج العرب بمكوناتها الفكرية والثقافية و المجتمعية منذ مئات السنين ويصح التعبير.
قبل وصولي كنت قد عاهدت نفسي ألا اتسرع بالخروج بأحكام حتى أُشبع فكري وفضولي من جمع أكبر كمٍ ممكنٍ من التجارب والمشاهدات، ولست أُنكِر في هذا الموضع أنني وقعت في حب هذا البلد الأصيل الوادع منذ أيامي الأولى هناك، وعلى الرغم من تركي له منذ ما يقارب العام إلا أنني ما زلت أتنفس نسيم شواطئه وأتلمس رمالها الدافئة رغم البعد والفراق، وهنا قد تشوبني تهمة جميلة ما دمت أرمق الكويت بعين ملئها الإجلال والرضى..
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
هذا واقع قد عشته طيلة مشوار اقامتي هناك، فلا أذكر أن زادتني كل تجربة هناك إلا تأكيدا على أصالة وطيب هذه البقعة المباركة بأهلها.
إن الكويت الدولة لا تكاد تتمايز عن الكويت الإنسان، فكلاهما يضيء من مشكاة واحدة، والحديث عن أحدهما يعني بالضرورة وصف الآخر دون زيادة أو نقصان.
تغلب على الكويتيين عادات وتقاليد مستَمَدَّة من مزيج بيئتين متضادتين البحر والصحراء، ففي الأولى تلمح العطاء والتسابق على المكارم وفي الأخرى ترى الهدوء والصبر والإبتسامة الدافئة، اما امتزاجهما فيولِّد الترحاب بالضيف ومدِّ يد العون للمحتاج دون انتظار جزاء منه أو شكورا.
الكويتيون أصحاب روح مرحة تنأى عن النكد والتعقيد وتزرع القبول في نفس الآخر دون حذر او تردد، عبر تعاقب السنين والأحداث كانو مثالا للإحتواء والمحبة و للتسامح، وبالمقابل قدموا أُنموذجا حيا لتجاوز نقاط خلاف بالغة الصعوبة وقلب صفحات الألم ونبذ الضغينة فهي ليست من شيمهم المتأصلة. إن التسامي في مثل تلك الصفات لا يكون إلا في الشعوب ذات الرصيد الضارب في العمق وهي عادات رضِعَها مِن قبلهم الأجداد الذين أسَّسو وبَنَو قواعد هذا البلد وحرصو أن يورثوها لمن خلفهم من الأجيال المتعاقبة حتى لمستُها بنفسي ووجدتُها حقيقةً غير مصطَنَعة أو مبتذلة فلأهلها كل المحبة الصادقة وكل الاحترام.
اما أنا، فقد تعرفت على الكويت قبل أكثر من خمس و ثلاثين سنة. عندها، وصلتني ومضات من منارة توعوية في حقبة شحيحة الموارد ويعز فيها حتى الكتاب. وذلك من خلال واحدة من أعظم ما صدَّرَت الكويت خلال تاريخها ( مجلة العربي). في الثمانينيات من القرن المنصرم كنت انتظر بشغف كبير والدي في نهاية كل شهر ليحضر لنا العدد الجديد من العربي. لا أبالغ إذا نسبت الفضل بعد رب العالمين اليها فيما يتعلق بمضاعفة وصقل الخيال الأدبي والتنوير العقلي لدي.
فعلياً، لم يكن في حينها شيء يضاهي هذه الباقة المتكاملة بمواضيعها العلمية المُحَدَّثة والجغرافية والأدبية المتنوعة بالإضافة الى الفنون الإقليمية والعالمية منها، ولغز رقعة الشطرنج في أواخر صفحاتها.
اليوم، أجدني أسعدُ بذكر أي شيء من شأنه تحويل الحوار مع الأهل والأصدقاء للتكلم عن الكويت. وعندما التقي بزملاء واصدقاء ممن وُلِد أو عاش ورَبِيَ في ضواحي الكويت أجدني أشاركهم الدمعة الحائرة في عيونهم اللامعة لصدق حنينهم والذي بنظري يبرئهم من كل خطئٍ كان قد ارتُكِب باسمهم ذات يوم. فالعِشْرَةُ باقية،، والمعروف الذي بينهم وبين السالمية وشوارعها وحولي وابو حليفة ومنازلها ممتدة مهما طالت المسافات وبعد الزمن.
ما زال في وجداني تجاه الكويت الكثير مما أرغب البوح به، ولكني اتوقف هنا لأهدي هذا الطيف من الخاطر إلى بلدي الثاني الكويت دولة وقيادة وشعبا، لأني وجدتها كما غنى لها العندليب الأسمر تماما كما رسمها في مخيلتي عندما كنت طفلا ( يا كويت يا حبيبة) ، وأغتنمها مناسبة لأهنئكم بعيد الفطر السعيد فكل عام وأنتم بألف خير،،، وكل عام وأنتم أهل للخير.