سرعان ما تحولت المطالب بإصلاحات سياسية في سورية إلى حرب أهلية ذات طبيعة طائفية واثنية بين نظام علوي ومعارضة سنية، مما فتح الباب واسعاً لتدخل الأطراف الخارجية، اصطف العرب بجانب المعارضة السنية ودعموها بالمال والسلاح، أما إيران فكانت على الخط منذ البداية إذ أعلن المرشد علي خامنئي عام 2011 فتوى للجهاد لصالح النظام وبدأت بإرسال مليشياتها لدعمه، بالنسبة لتركيا فقد احتضنت ما عُرف بالجيش الحر، استمر الصراع بين الأطراف من دون حسم حقيقي لغاية العام 2015، عندما حدث التطور الأهم وهو دخول روسيا إلى حلبة الصراع، وهنا أدرك العرب بالذات أنهم هزموا في معركة سورية، وبقي أمر حسم الصراع منوطاً ببقية الأطراف، أما إيران فتمسكت بالصبر الاستراتيجي، بالنسبة لتركيا فقد استحوذت على بعض الأرض وقوى المعارضة الرئيسية، أما الطرف الدولي الأهم وهو الولايات المتحدة فاختارت المنظمات الكردية لدعمها ومعها أهم مكامن الغاز والنفط، وفي نهاية المطاف أصبحت الخريطة السورية مقسمة بين هذه الأطراف، أما العرب فهم تقريباً خارج اللعبة باستثناء قطر التي احتفظت بعلاقاتها مع بعض قوى المعارضة، وتقسيم الحصص هذا يحرم أي طرف أي امكانية ليتحدث باسم كل سورية.
والآن بعد عشر سنوات نشهد ما يشبه الهستيريا العربية في إعادة العلاقات مع الحكم في دمشق ابتدأ في العام 2018 ولكنها أخذت شكلاً ملفتاً في الآونة الأخيرة للدرجة التي جعلت الكثير من المتابعين يشعرون بالحيرة حول أسباب هذه الصحوة المفاجئة نحو دمشق بحيث أصبح الأسد غاية الجميع، بدءاً من تركيا أردوغان العدو اللدود إلى السعودية ودول الخليج العربي ومصر، لا شك أن لكلٍ منهم غايته، فأردوغان مقبل على انتخابات مصيرية ترتفع فيها حدة الكراهية للاجئين وهذه أصبحت قضية ملحة بالنسبة للناخبين، بالإضافة إلى أنه يريد أن يسقط ورقة سورية من يد خصمه الرئيس كمال كليجدار أوغلو بالمصالحة مع الأسد ولأن الأسد ليس في عجلة من أمره ولا يريد تقديم العون لعدوه بالتالي وضع مطالب تعجيزية أمامه تتمثل بالانسحاب من الأراضي التي يحتلها وإيقاف دعم المعارضة، بالتالي فشلت المفاوضات.
بالنسبة للعرب تقوم فكرة المصالحة مع الحكم في دمشق على عدة فرضيات قاعدتها الأساسية ان المنطقة يجب أن تدخل مرحلة من الاستقرار حتى تتحقق التنمية المستدامة فيها وهذا لن يتم طالما ان الحروب مشتعلة فيها وبالتالي يجب البدء بإطفاء بارود الصراعات وسورية من أهمها، وذلك بعد أن تجاوزت الأطراف التحفظات الأميركية بسبب انشغالاتها خارج المنطقة، الفرضية الثانية تقول أن اقتراب العرب من النظام مع الوقت سيأتي على حساب الحصة الإيرانية والتي تضاعفت على حساب روسيا بسبب انشغالها بالحرب مع اوكرانيا وربما هذه الأخيرة أقنعت بعض الدول العربية بأن دولة سورية قوية سيضعف الوجود الإيراني فيها، ويبدو أن كعكة إعادة الأعمار كانت سبباً في تسارع هذه العودة، ولا يمكن إغفال العنصر المعنوي فالقادة العرب عندما ينظرون حولهم سيجدون تراجعا كبيرا في النفوذ الأميركي لمصلحة الصين وروسيا بينما إيران عدو أميركا تكسب في جميع حروبها الإقليمية بالوكالة، وفي نفس الوقت فإن جميع حلفاء أميركا يخسرون وهذا مدعاة للإحباط من الدور الأميركي وبالتالي العبث من التمسك به، وربما لبى العرب رغبة أو طموح خفي لدى النظام بمحاولة التحلل من الضغط الإيراني على اعتبار أن مليشياتها قادرة على الفوز بالحرب ولكنها تفشل في ضمان الاستقرار السياسي وربما تكون هذه واحدة من الفرضيات.
بالنسبة للمبادرة الأردنية والتي تتضمن اعتراف العرب بالأسد وضخ مليارات الدولارات في إعادة الإعمار وممارسة الضغط على الولايات المتحدة لفك القيود عن النظام بالمقابل على النظام إجراء محادثات مع المعارضة والسماح لقوات عربية بالتمركز لحماية اللاجئين ووقف تهريب الكبتاجون وتقليص الوجود الإيراني في سورية، وهذه بنيت على اعتبار أن إيران غافلة وأن لعبة تقليص وجودها ونفوذها بعد كل تلك التضحيات ستمر هكذا وهي التي اعتمدت استراتيجية الانتظار لحين تغير الظروف الدولية بدلا من تغيير سياستها رغم كل الضغوط، فقد كانت على قناعة أن اللحظة المواتية ستأتي وستدفع جميع القوى سواء العربية أو الدولية للمصالحة مع الأسد إن عاجلاً أو أجلاً، وما يحدث يؤكد صحة نهجها وهي التي حولت مشروعها من الهلال الشيعي إلى القمر الفارسي بعد نجاحها في قهر خصومها ويُراد منها الآن أن تتخلى عن كل ذلك في غمرة انتصاراتها.
لذلك تدخلت إيران بسرعة لفرملة المصالحة مع تركيا وهي الخصم الأهم والأقوى وبدأت بمناوشة الولايات المتحدة وضرب قواعدها بجرأة غير مسبوقة كي تستحوذ على حصتها وهي أوقفت في اللحظات الأخيرة موافقة الأسد على الشروط العربية فأوقفت مسار التطبيع، وهي من ستطيح بالأسد إذا ما قرر الإنقلاب على إيران، فهي حاضرة في عِدها وعديدها ولن تنطلي عليها دعوات السلام والتنمية، وهذا يؤكد أن الحل ليس سياسيا لأغلب قضايا المنطقة بالذات في سورية ودول الطوق الإيراني، ولأن العرب لا يمتلكون القوة الكافية وربما الحلفاء المناسبين فإن الوقت قد حان لتسمية الأشياء بمسمياتها، العرب ينهزمون أمام المشروع الإيراني وكذلك التركي بالإضافة للإسرائيلي وهم مندفعون إلى السلام مع هذه الأطراف وهذا لن يتحقق ابداً ما لم يسنده ميزان قوة مؤثر وقادر على تغيير المعادلة عدا عن ذلك فإن كل ما يحدث لا يعدو عن كونه مضيعةً للجهد والوقت والمال.
(الغد)