حين يفشل نصف السكان في بلدٍ ما في تدبر أمر ملابس العيد لأطفالهم؛ فلا تحدثني عن العلمانية واليسار الاجتماعي والدعاة الجدد، والوعي الذي سيقود التغيير،.. حدثني فقط عن الجوع!.
وحين تكون فرداً في مجتمع لا يجرؤ نصف أبنائه على التفكير بالجامعات الحكومية، أو التعليم الموازي، فمن الترف أن تسترخي وتحدثني عن “أهمية العِلم” أو هوايات “وزير التعليم العالي”!.
عليك أن تتجنب ما استطعت الحديث عن أحلام النخبة المثقفة، وجلسات العصف الذهني، وأمسيات المركز الثقافي الفرنسي، وعليك أن تنتبه: أنت ابن مجتمع تنهشه الأمّية، حتى لو كان نصف السكان قد أقاموا حفلات توقيع لكتبهم.
وحين يكون الحجم الحقيقي لجرائم الشرف خمسة أضعاف ما تقرأ عنه في الصحف، فلا تتباهَ كثيراً بهذا العدد الضخم من “مقاهي الأرجيلة”، وروادها من الفتيات القاصرات، فهذا ينم عن قصورٍ ثقافي خطير وعن شريحة هائلة من الشابّات والشباب المصابين بـ”الخمج الاجتماعي”.
حين تنتهي كل مباراة رياضية بتحطيم عشرين سيارة، وبخمسين نزيلاً في المستشفى، فدعك من تمثيلية السلم الأهلي، والوعي السائد، و (النضج الذي حققه مجتمعنا)، وعليك أن تراجع جيداً الأمراض المعدية والمتقيحة التي يخفيها عنك “السيد المجتمع”!.
حين يكتظ المكان بالدعاة الطيبين الذين يستهجنون من أين يتسرب الفساد، ومن أي شقوق البيت تتسرب الرياح السيئة.. حين يتقن الجميع أداء دور “النقيّ الطاهر”، فهناك ما يخفيه هذا “الجميع” وراء ظهره!.
حين يصاب الشارع بهياج في كل أنواع مشاعره الشخصية والعائلية والوطنية والدينية والرياضية، ويحمل آلة حادّة للدفاع عن مطربه المفضَّل، فعليك أن تراجع منظومة القيم المريضة التي توزع على الناس سراً من ورائك!.
حين يصرخ فيك سائق التاكسي، ثم يخفي وجهه بيده ويدمع، ثم يلقي عليك نكتة بذيئة وهو يقدم لك كأس القهوة البلاستيكي، على سبيل الاعتذار بطريقته، فربما لأن لديه طفلتين جائعتين في البيت!.
حين يصير كل فرد في الشارع مشروع مشكلة، وكل شخص جاهزاً لشجار حادّ، والمدينة عصبية وتحرك كفّيها في وجهك مُهدِّدَةً طيلة النهار كأنها زوجة أب، وزوامير السيارات تلاحقك، والناس يركضون خلفك فربما صار عليك أن تهرب!.
وحين تهرب عليك أن تستعين بكل الأدوية المتاحة لتتجنب ذلك المرض الذي اسمه “الحنين”.. وسيغلبك!،، لأنك بالأصل ابن هذه الثقافة.. وابن هذا المجتمع.. وابن هذا الخراب.. وليس بوسعك أن تخلع جلدك.
"الغد"