إذا كانَ من الصُّعوبة أن يتواجد الواحد منّا في مكانين اثنين جالساً على مقعدين بعيدين في وقت واحد، فالصعوبة الكبرى ستكون في أن تلتحم أنت وضدك في قميص واحد، وربطة عنق واحدة. أو أن تكون فرحان وحزنان في آن، أو أن تبدو سعيداً وتعيساً معاً، هادئاً ومتوتراً، شارداً ومنتبها، مقبلاً ومدبراً.
لكنَّ من حسنات هذا الزمان أنَّ الواحد منا صار قادراً على أن يكون متفائلاً ومتشائماً في ذات اللحظة، وعند الفكرة ونقيضها، وفوق المسار المعقوف وتحته. صار الواحد منا مدموجاً دمجاً لغوياً، أو منحوتاً نحتاً بنيوياً في كلمة واحدة تتقبلها الأسماعُ وتستسيغها: متشائل. أي متشائم متفائل.
فمرحى للمتشائلين الجُدد، وهم كثر يملؤون الآفاق حتى ولو لم يفصحوا عن هويتهم، مرحى لهم إذ يعطون فرصة للتفائل أن يمتد ويسود نفوسهم. مع أنني لا ألوم المتشائمين الكبار، حين يعتقدون أن القمر إن سقط على الأرض؛ فلن يقع إلا على نوافيخهم، لأن رؤوسهم ما بزغت يوماً من بين ركام الخيبات.
ولن ألوم من يخاف حبلاً مجروراً على صفحات التراب، فالثعبان الذي لذغه ذات مرة ما زال يصول ويجول في تلافيف نفسه ليل نهار. ولن أهزأ بمن ينفخ في اللبن الرائب البارد؛ لأن حليباً ساخناً ألهب أسلة لسانه، وحرق سقف حلقه ذات شره.
ولن نلوم أيضاً من ما زالوا يقولون إن قلوبنا من الحامض «لاوية»؛ من فرط ما مرَّ عليهم من تجارب تتالت متشابهة جعلتهم يدركون أن مزيداً من خضِّ الماء لن يفصح عن زبد يطيش فوقه. ولن نحفل كثيراً ببعض المتفائلين الذين يتمتّعون بذاكرة سمكية، لا تحفظ شيئاً من التجارب المرة المريرة، وتنسي ماذا كان عشاء أمس. وهؤلاء لربما يصفقون للفلاح بقدر تصفيقهم للفشل وبذات الحماسة، وقد نجد لهم مبرراً، أن الأيام في نظرهم ولّادةٌ، وأن البطن بستان قد تهل الحسنات من حيث جاءت السيئات.
في المقابل فإن من المتشائمين من يصدحون بما قاله العالم الفيزيائي الشهير آينشتاين: إنّ من من الجنون أن تجري تجربة بذات الأداوت وذات الطريقة، وتتوقّع نتائج مختلفة في كل مرة.
لكن في المحصلة وهذا المهم، فليس أجمل من التساؤل في هذا الوقت المضروب بخلاط اليأس والضجر والقنوط على شرط أن نبقى قابلين للجنوح نحو التفاؤل المطلوب؛ كي يملأ نفوسنا ويخنق ضده.
(الدستور)