محمود الزيودي .. الفنان المختلف في زمن التشابه
د. عبدالهادي أبو قاعود
16-04-2023 12:20 AM
بلهجته البدوية الرزينة التي تعلّم معاني مفرداتها في "غريسا"؛ البلدة التي أحب وأتخذها مستقراً ومقاماً، وعلى أرضها التي ألهمته بعشقهِ لذرات ترابها مئات الأفكار، فغدتْ القبلةَ التي تتوجه إليها بوصلة أعماله على تنوعها؛ مسرحاً وإذاعةً وتلفازا، وفي قوات البادية التي زانت كلماته وعتّقتها جمالا، أطلَ محمود الزيودي على الأردنيين حاملاً في فكره وفكرته مخزوناً هائلاً من الرّسائل الدّاعية إلى الفضيلة والخير، ناشراً السجايا الطيبة والعادات النبيلة القيّمة في بادية الأردن وريفه ومخيماته.
سيرة ذاتية تفيضُ بمئات الأعمالِ المتنوعةِ ذات القيمة الرفيعةِ النافعةِ والهادفة التي حصدتْ العديدَ من الجوائزِ المحليّةِ والإقليميةِ التي حكّمتْ هذه الأعمال ووزنتها فرجحتْ كفة رفعتها وعلو معانيها.
ففي أعماله البدويّة أظهرَ الزيودي أجملَ ما في الباديةِ لهجةً وكرماً ونجدةً وايثاراً، مُنطلقاً من انحيازهِ للخيرِ والفضيلةِ التي يُؤمنُ أن نشرهما بين الجمهور على اختلاف فئاتهم العمريّة وتتنوع مشاربهم الفكريّةِ والثقافيّة رسالةٌ تتطلبُ انتقاءً الأجودِ والأجمل سعياً لتعميمهِ وترسيخه في ظل تسارع وتيرة التّطور العلميّ والتّكنولوجي، ومحاولةً منه لإظهار حقيقةِ المجتمعِ البدويّ بِكُلِّ تفاصيلهِ مع الانحيازِ إلى الأبهجِ فِيهِ، لتبقى رمزية البادية المتزنةِ حاضرة ً في أذهانِ الأجيالِ دونما تشويهٍ أو تضليلٍ.
أما أعماله التي تناولتْ الرّيفَ فقد حضرتْ الأرضُ بقوةٍ بوصفها رمز الهويةِ ومحور الإنتاجِ وأساس ديمومة الرُقعة الخضراء التي طَالها الزحف العمراني، داعياً إلى رعايتها واستصلاحها ، مناهضاً -بأسلوبه المختلف- لبيعها أو إهمالها؛ فقدّم المجتمعَ الريفيَّ بأصدقِ ملامح حياتهِ، دونما تصنّعٍ أو تكلّفٍ لتأتي أدوارهُ متقنةً لاقترابها من حياة الناس في ملامستها أوجاعهم واهتماماتهم، وتحظى بالمشاهدة والمتابعة والبقاء في الذاكرة لصدقها ونبل هدفها.
وفي برامجه الإذاعية فراح يحرص على محاكاة الواقع وتناول القضايا بحنكة وروية بعيداً عن الاستعراض المبتذل.
في هذا الشهر الفضيل أطل علينا الزيودي من خلال شاشتنا الوطنية -التلفزيون الأردني- الذي أحسن صنعاً بأنْ أفردت له مساحة في دورتهِ البرامجية الخاصة برمضان، من خلال "حكايا الزيودي" والذي أنتقى محتوى يستحق المشاهدة؛ بدءا من أغنية الفنان الراحل إسماعيل خضر ( أنا الأردن) التي ترتقي كلماتها إلى الذائقة الحقيقية المحبة للأردن لحناً وصوتاً وصورا، إلى جولة الزيودي في متحف الدبابات الملكي - الصرح الذي يوثّق مراحل تطور قواتنا المسلحة الباسلة- فالمتابع يراه ممسكا بأجزاء من الدبابة التي تحمل الرقم ( 31) وتشبثه بها وكأنه يحييها ويلقي عليها التحيات، فهي من ذادت ذات يومٍ عن حياض الوطن، ثم يكمل جولته بالوقوف أمام الزي العسكري المعروض الذي ارتداه أبطال جيشنا العربي.
جولة الزيودي ونظراته هي اللغة الحقيقية التي يعرفها الأردنيون ويعلّمونها لاولأدهم أمل الغد ورجالاته.
الزيودي يقدم حكايا عن تاريخ الأردن الذي بُني على امتداد مائة عام ونيف من الكد والتعب المجبول بالدم الطاهر، يقدم مادة يفتقدها جيل اليوم الذي غُيّب عن تاريخ وطنه وتضحياته، تاريخ الأردن الذي غاب عن شاشتنا الإعلامية ولا يتم استحضاره إلا في المناسبة الوطنية على شكل فقرة عابرة يقدمها من لا يعرف أدنى ابجدبات هذا التاريخ ومحطاته الفاصلة.
شكرا للزيودي الذي ظل محافظاً على رسالته الرفيعة البعيدة عن الابتذال، المتزينة بالرصانة والخلق الرفيع، شكرا لحرصه على أن يقدّم الزي الأردني بجماله المعتاد وصورته الزاهية في أذهان كل مشاهد.
شكراً للزيودي المنافح عن الأرض والقيم النبيلة المترفع عن الفن الهابط الرديء.
والشكر للتلفزيون الأردني الذي أعاد حضور فنان أردني بحجم الزيودي إلى شاشته التي غاب عنها الكثيرون؛ فنانون ومذيعون، من أصحاب الأداء التام المتميز الذين نفتقدهم اليوم.
أطال الله في عمر الفنان محمود الزيودي وأتمنى أن يكون له حضورا في كليات الفنون ومعاهد الفن لقاء خبرته الممتدة وفنه الراق، إذا أردنا لهذا النوع من الفن الاستمرارية ودوام البقاء.