لم تعد هناك مضارب ، وبيت الشعر الذي تم جره بالأمس كان ميتا سلفا ، وتلك الربوع والتلاع ، اجتاحتها قوى السوق الكاسحة ، والخرابيش ، حتى الخرابيش قد أودت بها الفلل ، كما أبلغنا خالد محادين منذ ثلاثين عاما ، واذا ما سألت عن الشيوخ ، فقد تكاثروا وتكاثرت فيهم الشروخ ، اما الأبل فلم تجد أهلها حين هجت ، فتحولت للاستعمال السياحي ، وفي الحقيقة ، لم يبقى شيء من ذلك العالم المدهش ، الا مسلسل سخيف على الشاشة ، ومقاعد كوتا في البرلمان مشكوك في دستوريتها كغيرها من الكوتات المتكاثرة كالفطريات الضارة في كل قطاعاتنا مع غياب ضار أيضا لكل المعايير الصحيحة.
ذلك ، باختصار ، هو الواقع الفعلي الذي تتحرك عناصره ، وفق قوانين الكلمات والاشياء ، لا وفق قوانين الرغبة والهندرة ، ومهما يبدو الواقع في زمننا مفتوحا ، فان من الصعب التعرف عليه كما هو لا كما يبدو ، وتلك احدى صعوبات البحث العلمي في حقل تطوير المنظمات ، حتى صار لزاما على الباحثين اللجوء لما يسمى البحث العملي وتطبيقات علم السلوك ، ففي زمن تصدع الحقيقة ، لا شيء اصعب من فهم اتجاهات شخص بشري مقتلع من جذوره ، وتتقاذفه أمواج الحداثة والعولمة وما بعدهما ، فتحول او يكاد ان يتحول الى زومبي ، والزومبي كلمة اسبانية شائعة الاستعمال في المستعمرات الاسبانية السابقة في أمريكا اللاتينية ، وحسب ترجمة غير دقيقة فانها تعني جسما متحركا مستلب الروح.
وهذه ، أزمة عربية أخرى تتعلق بالترجمة ، فالترجمة المتقنة باهظة التكاليف ، ولا ينفق عليها أي محسن ، في حين ان كل الإصدارات العلمية المفيدة ، تتدفق يوميا عبر دور النشر المرموقة بلغات الأمم المتقدمة ، ولا يمكن ان يفهم الانسان أي شيء بدقة اذا لم يكن متاحا بلغته الأم ، ولغتنا الأم للأسف تخشبت من كثرة التكرار والاجترار ونضوب خيالات المبدعين والكتاب.
وعند هذه النقطة ، من تاريخنا الوطني الأردني خاصة ، نعتقد انه لم يعد مجديا ولا مفيدا البحث او النقاش في كل ما جرى منذ أربعين او خمسين عاما وحتى الان ، فالمصلحة الوطنية الأهم تستدعي الان بشكل وجوبي ان نتسامى فوق كل المجريات ، وبدون أي ألم علينا ان نؤيد تغيير قانون التخطيط الذي وعدنا منذ زمن بعيد ، بتحقيق الاكتفاء الذاتي ، وتحرير الجزء المغتصب من فلسطين ، ففلسطين باتت كلها محتلة.
والمنظمة الفلسطينية التي تأسست أصلا لتحرير ذلك الجزء ، قصتها مريرة اكثر، واحيانا مضحكة ، وتشبه تقريبا قصة صقر أم قيس ، وسيدة فلسطين المحتلة الأولى ، تتابع الأمور من باريس ، وابنتها الحسناء عازمة على السير على خطى الوالد رحمه الله ، ولن نصدق ما يشاع عن مصير ثروات المنظمة ، ويسرنا طبعا التنسيق القائم بين الاخوة في جهازي مكافحة الفساد في رام الله وعمّان ، فهل هناك شيء يفحمنا ، الا مقارنة احوالنا بأحوال اخوتنا في عواصم النهوض والتقدم والثورة والجملوكيات.
واذا كنا ونحن نصف الواقع كما هو ، نتحاشى قدر الإمكان ان نقسو ، فاننا في نفس الوقت نحاول ان نلتزم بأكبر قدر ممكن من الموضوعية ، لكننا في هذه اللحظة الراهنة للأمور مضطرون على تقديم الأهم قبل المهم ، فالأهم الان هو المحافظة على امن الأردن واستقراره ووحدة أبنائه ، وتعزيز الصمود الفلسطيني ، والدفاع عن القدس.
ومهما كانت اختلافاتنا ، فاننا نضم صوتنا لصوت السيد فيصل الفايز ، فقد أصاب الرجل برأينا مرتين ، مرة حين حذر مما يمكن ان يحدث في اليوم التالي فيما لو تضعضع الوضع في الأردن ( لا سمح الله ) فاليوم التالي في الأردن طويل جدا ومظلم جدا وقد لا ينتهي ، لذلك علينا ان ننحاز لمصلحتنا الأعلى ، ونحتمي بمليكنا ونحميه ، وهذه قناعة مستقرة في الداخل الأردني العميق مهما اختلفت الآراء.
وأصاب الفايز في المرة الثانية حين رفض طروحات دعاة الجهاد والتسليح والحرب والضرب ، وكان سؤاله يحمل في داخله جوابه ، وهو يتساءل عن مجتمع الحرب واقتصاد الحرب ، وهذه نقطة لا يختلف في حساباتها اثنان.
وضمن كل هذه السياقات ، ومهما كانت شدة المتغيرات والتقلبات ، فاننا نؤمن بقدرة بلدنا على مواجهة كل المحن وتجاوزها ، ونثق بان الأردن في العمق ، لا يخاف ، وبوسعنا ان نشعر بالطمأنينة فعلا ، بل سنصل الى حد الموافقة على ان المستقبل سيكون اجمل ، شريطة العمل الجدي وفق جدول الأهداف المحددة ، وتقديم ما يثبت القيام بالاعمال المطلوبة أولا بأول ، مع ان الأفعال لا تحتاج الى أي بيان..