ميشيل صبّاح .. بطريرك الشعب التسعيني
الاب رفعت بدر
13-04-2023 01:33 AM
أكتب هذه الكلمات، فيما يحتفل البطريرك ميشيل صبّاح بدخوله في تسعينات العمر المديد. وهو الذي يحمل لقب «بطريرك القدس»، إلا أنّ الشعب الفلسطينيّ قد أطلق عليه، وبحق، لقب «بطريرك الشعب».
وُلد البطريرك ميشيل صبّاح في ناصرة الجليل بتاريخ 19 آذار 1933، وأصبح كاهنًا في البطريركيّة اللاتينية منذ عام 1955. خدم في رعايا عديدة، تميّز فيها بالهدوء والحكمة والروحانيّة والانفتاح. ومن أبرز المهام الرعوية هي كنيسة «يسوع الملك» في المصدار، وسط عمّان (منذ عام 1971 الى 1987)، حيث أشرف على المدرستين في المصدار للبنات وفي الأشرفيّة للبنين، بالإضافة إلى الخدمة الروحيّة لواحدة من أكبر الكنائس وأعرقها في العاصمة، وقد انشأتها البطريركية اللاتينية منذ عام 1924.
أمّا عن تحصيله الأكاديميّ، فأبرزه شهادة الدكتوراة في فقه اللغة العربيّة من جامعة السوربون. فبعد حصوله على درجتي البكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من المعهد الإكليريكي في بيت جالا، تابع دروسه في اللغة العربيّة في جامعة الآباء اليسوعيين في بيروت، وخلال الأعوام 1968 إلى 1975 درّس اللغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة في أبرشيّة جيبوتي. أصبح بعدها رئيسًا لجامعة بيت لحم (من 1980 حتّى عام 1988) والتي أنشأتها البطريركية، بعد زيارة البابا بولس السادس عام 1964، وابتدأت باستقبال الطلبة عام 1973، وتحتفل هذا العام بيوبيلها الذهبي.
ولقد كانت المفاجأة الكبرى والسارة في 28 كانون اول 1987 حين أعلن الفاتيكان أنّ البابا يوحنا بولس الثاني قد عيّن كاهن رعيّة المصدار بطريركًا على المدينة المقدّسة، ليصبح أول بطريرك عربي للكنيسة اللاتينيّة. وقد جاءت ظروف تعيين البطريرك مناسبة جدًا، حين كانت الانتفاضة الشعبيّة الأولى تنطلق في كل نواحي فلسطين، فشكلّ التعيين دعمًا لحقوق شعب ما زالت أرضه محتلة، وما زال يفتقر إلى أبسط الحقوق والحريات.
وانطلق البطريرك صباح وسط العواصف المهدّدة سلامة الحجر والبشر، وابتدأ مرحلة التنظيم الإداري والرعوي في كل أنحاء أبرشيته الممتدّة في فلسطين والأردن وجزيرة قبرص. وانفتح على كل كنائس الشرق، الكاثوليكيّة أولاً بالإسهام القوي بإنشاء مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، واضعًا إلى جنبه الكاهن المثقف الأب رفيق خوري الذي دخل بدوره هذا العام الثمانين من عمره، وأسهم في صياغة الرسائل الرعوية الستة الأولى لبطاركة الشرق، ولعلّ جوهرتها الثمينة الرسالة الثانيّة المعنونة بـ:"الكنيسة في الشرق شركة وشهادة». كما انفتح على الكنائس الشقيقة من خلال إدخال البطريركية اللاتينيّة، وبكل جدارة، في مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يُحيي العام المقبل خمسين سنة على إنشائه أيضًا. وأسهم في تطوير الكهنة معرفيًا، وازدادت في عهده ثقافة الكهنة وإبتعاثهم لإكمال الدراسات اللاهوتيّة وقانون الكنيسة في الجامعات البابوية في روما. واستقبل البابا يوحنا بولس الثاني عام 2000، مختتما بذلك سينودس الكنيسة الكاثوليكية في الارض المقدسة.
وتميّز صبّاح بالكلمة الحرّة في داخل فلسطين وخارجها، وعُرف عنه الاقتضاب بالكلام والتعبير الواضح والصريح. فشكّل إلى اليوم، وحتى بعد تقاعده بحسب السن القانونيّة، صوتًا عربيا مسيحيا فلسطينيا حرًا، ومساندًا للانسان، داعيًّا الآخرين إلى التذكّر بأنّ الله واحد، وأنّه تعالى يُحبّ الجميع ويدعو الجميع إلى الأخوّة الحقيقيّة.
لم ييأس صبّاح، من أنّ فجرًا جديدًا ينتظر مدينة القدس العزيز على قلبه، واختار أن يبقى مقيمًا فيها منذ تقاعده عام 2008، فأسّس فريق «كايروس فلسطين» (وثيقة وقفة حق – وهي كلمة إيمان ورجاء ومحبّة من قلب المعاناة الفلسطينيّة)، ونقل مضامينها إلى العالم أجمع، ودُعي من الشعب الفلسطيني كله بـ"بطريرك الشعب». ويُطلّ من شباكه في جبل الزيتون كل صباح على مدينة السلام، مصليا وسائلا الله تعالى: » أن يُرسل في الأرض المقدّسة، ولاسيّما في حُكّامها، قلوبًا جديدة وعقولاً جديدة ورؤىً جديدة ترى الله والإنسان، فترى السلام الضائع، فيعرفون أن الأمان لا يوجد إلا في قلوب الناس، لا في مقاتلتهم».
لقد كرّمته البطريركية باحتفال كنسي وشعبي في مدينته الناصرة، في يوم ميلاده التسعين قبل ايام. وشخصيًّا، أفخر بأن هذه الشخصيّة قد علمتني وقادتني ككاهن لكنيستي في المصدار، وهو الذي سامني فيها كاهنًا في 29 حزيران 1995. ولا أنسى الكلمة التي قالها لي يومها في عظة القداس، وأعتبرها منهاج طريق: » المجتمع الذي ترسل إليه اليوم، بحاجة إلى وحدة ومحبة، في جميع المستويات: الجماعة المسيحية في ما بينها: في الرعية ذاتها وفي الأبرشية ذاتها، وبين الكنائس المختلفة، بطقوسها وكياناتها الكنسية والمدنية المختلفة. مجال خدمة المحبة والخدمة المسكونية وخدمة الحوار بين الديانات، هو من أولويات الرسالة اليوم، ولو بدا لك أحيانا بل مرات كثيرة، أن السير في هذا الاتجاه هو سير عكس التيّار».
دُمت سالمًا يا بطريرك الشعب التسعيني، وليمدّ الله بعمرك لتبصر فجر المئويّة، باذنه تعالى.
(الراي)