الحزبية والسياقات الاجتماعية
د.سالم الدهام
11-04-2023 04:08 PM
تشهد الساحة الأردنية في هذه الآونة حراكا واسعا نحو التعبئة الحزبية، سواء باتجاه تشكيل أحزاب جديدة أو دعم أحزاب قائمة وإشهار فعالياتها ومؤتمراتها، واستكمال هياكلها وبنياتها التنظيمية في المحافظات والأرياف، وتتصدر هذه الأحزاب شخصيات عامة ممن مارسوا العمل السياسي العام وكانوا جزءا من مؤسسات الدولة و سلطاتها، وبعضهم ما يزال جزءا منها حتى الآن وهذا لا يعيبها ولا ينق من شأنها متى كان هؤلاء من أصحاب التطلعات المبنية على رؤى وتصورات فلسفية ومجتمعية عميقة وشاملة.
ومن الملاحظ أن البرامج والأهداف والتطلعات لا تكاد تختلف كثيرا بين حزب وآخر، فهي جميعها ترفع شعارات واعدة ومثيرة، وعناوين جميلة تنشد إعلاء شأن الإنسان وضمان مستقبله وحريته ورفاهه، دون أن توطِّئ الأكناف لهذه الشعارات وتلك العناوين بما يعين على تحقيقها من منهجيات تتصل بالواقع ولا تتعالى عليه، وتسخر أدواتها وتستثمرها لخدمته، بدلا من أن تهيئ العيون للنعاس، لتملأها بأحلام كبيرة لا تتسع لها الأخيلة.
ولعل أدوات ممارسة العمل السياسي في كثير من هذه الأحزاب تعتمد بشكل كبير على استقطابات جماعية لا فردية، وبمعنى أكثر دقة فهي تدور في فلك مراكز نفوذ الأعضاء القياديين في الحزب جغرافيا، وعشائرياً، ووظيفيا، وفئويا، وهي من أجل كسب تلك الكتل والمجاميع بالجملة تلجأ أحيانا إلى وسطاء وسماسرة يشبهون أولئك العاملين في سوق العقارات، وأحيانا يمارسون دور الوجهاء في جمع الصفوف وتأليف القلوب، وبغض النظر عن مدى مشروعية ذلك من عدمه، إلا أنني أعتقد أن المطلوب من هذه الأحزاب أن تجتمع على أسس فكرية تسفر عن برامج واقعية تخدم تلك الأسس التي ينبغي أن تخدم الوطن للتنافس على كسب ثقة مواطنيه وخدمتهم، وإدماجهم في الحياة العامة، وخلق دوافع إيجابية لديهم للانخراط بوعي ومسؤولية في دورة الإنتاج ومسيرة التنمية السياسية والوطنية الشاملة.
ولابد من أن ندرك أن البنى المجتمعية الوطنية المستهدفة من قبل الأحزاب - وإن بدت على قدر من التجانس في بعض المظاهر والممارسات - تفترق على المستوى العميق لما بينها من تباينات اقتصادية، وثقافية واجتماعية، وبيئية متوارثة، بفعل الجغرافيا الثقافية وما ينتج عنها من علاقة بين الإنسان والمكان من قيم وممارسات خاصة أسهمت في إنتاجها متغيرات كثيرة لا تنفك تشكل جزءا من ضمير المجاميع البشرية ووجدانها.
ولما كان الأمر كما سبق، ولما كانت الأحزاب تسعى لقيادة المجتمع، فإنها مطالبة بتقديم حلول ناجعة لجميع قضاياه ومشكلاته، الأمر الذي يتطلب تحقيق التماسك المجتمعي، وتذويب الخصوصيات المحلية لصالح ثقافة عامة، تعبر المجتمع أفقيا وعموديا، لتعاينه وترصد تفاصيله المختلفة لمعرفة ما يلزم من برامج و سياسات، وخلق مناخات مناسبة للتفاعل الإيجابي بين جميع تلك المكونات، لتصميم ما يلزم في نماذج مرنة تستوعب كل المدخلات الاجتماعية والثقافية دون تجاهل أي منها، ومن ثم العمل على اختبار تلك الصيغ المستخلصة وتجريبها في مختبر الحياة العامة، ذلك المختبر الذي سيمدنا بالتعديلات اللازمة على ذلك النموذج ليصبح أكثر ملاءمة للواقع وخدمة له مع مرور الزمن. وربما كان المطلوب في نهاية المطاف أن تقوم هذه الأحزاب بإعادة تفكيك البنى الاجتماعية والثقافية وتركيبها من جديد حين يتهيأ المجتمع للتحولات المطلوبة التي تخدم الوطن والمواطن.