طروحات الدولة الواحدة .. تشوه الاستدلال والاختزال عند المعشر
سامح المحاريق
11-04-2023 03:28 PM
في واحدة من روايات جون كويتسي يتحدث عن الحلول الذكية وغير الواقعية لبعض المشكلات، وكان منها تأمين الطائرات البريطانية من القصف الألماني، وأتى الحل، دفن الطائرات في الجليد في القطب الشمالي، الحل، بطبيعة الحال سيؤمن الطائرات بشكل كامل، ولكنها لن تؤدي دورها بأي شكل، ولن تعود طائرات بأي حال.
يمكن في ظل الواقع الراهن أن نتخيل حل الدولة الواحدة للصراع العربي – الإسرائيلي، بوصفه واحداً من هذه الفئة من الحلول.
حل الدولة الواحدة كان مطروحاً على الطاولة قبل قيام دولة إسرائيل، وطرحه الشيوعيون في الأربعينيات، وربما قبل ذلك، وأتى مرتبطاً بنبذ الصهيونية بوصفها أيديولوجيا تعبر عن البرجوازية اليهودية، وأحد أدوات الإمبريالية العالمية، بمعنى وضع الأرض لمن يعمل فيها ويقوم بتنميتها لا بمن يمتلكها، وهذه التوجهات حاربتها البرجوازية الصهيونية بالقطع، لأنها تجهض تعهداتها تجاه حلفائها الأوروبيين، وحاربتها بالقطع البرجوازية العربية التي كانت بدأت تتواضع عن أرستقراطيتها القائمة على ملكية الأرض بصورة إقطاعية، وبالتالي، صنف مشروع الدولة الواحدة بوصفه رؤية طوباوية أخرى، وحملاً خارج الرحم.
الدولة الواحدة في ظل تطورها كانت فكرة أخلاقية، ولم تكن يوماً سياسية، بمعنى أنها لم تمتلك لا اليوم ولا الأمس، ولن تمتلك في الغد، أي ظروف يمكن أن تحققها على أرض الواقع، أما الموقف الأخلاقي من الجانب الفلسطيني، فكان يمثله إدوارد سعيد وماجد كيالي، ويتبنى نظرية (اليهود المساكين) التي صاغها محمد الماغوط في مسرحيته الساخرة (كاسك يا وطن) وأنا من أصحابها وممن يتبنونها، أولاً، لأنها نظرية سهلة في بنائها ولا تستغرق أكثر من سطرين، وثانياً، لأننا لا نفهم المجتمع الإسرائيلي اليومي والعادي، ولا نقوم بتمثيل عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الأرض المحتلة بالصورة المناسبة ضمن النخبة الفلسطينية التي تحتكر إنتاج البنى النظرية حول الصراع العربي – الإسرائيلي.
المستغرب، أن الموقف الأخلاقي في الجانب الآخر، يذهب إلى أبعد من الدولة الواحدة، ويرى أن التورط أصلاً في فكرة الكيان القائم بكل واقعه غير أخلاقية في جذورها، ومنهم شيمون تسابار وشلومو ساند.
اليهودي غير المسكين، يبقى حاضراً في المشهد، وسيطرته على معطياته ولا أخلاقيته تتجاوز أي فكرة طوباوية مثل الدولة الواحدة، وللتذكير بطبيعته يمكن الرجوع إلى استنتاجات حنا أرندت على هامش محاكمة النازي أدلوف ايخمان والتي وصلت إلى أن المنظمات الصهيونية لم تكن بعيدة عن الجرائم النازية لتوظيفها في ترحيل اليهود إلى فلسطين، وهو اليهودي الذي فضحه مايكل جولد، وروايته حول اليهودي الفقير الذي عليه أن ينتمي لأحد المنظمات الصهيونية مقابل حصوله على عمل بسيط في نيويورك مثل خياطة الأزرار في مشغل صغير، واليهودي غير المسكين، ليس يهودياً بالضرورة، الدين هنا توصيف مجازي، ولكنه ممثل الأدوار الوظيفية التي تدخل في عملية الاستغلال على الطريقة التي أسهب الدكتور عبد الوهاب المسيري في شرحها على هامش مشروعه الكبير في دراسة الصهيونية.
وبذلك، فالعلاقة بين الصهيوني، جاريد كوشنر ودونالد ترامب ليست علاقة قائمة على أساس ديني أو فكري، ولكنها علاقة بين تجار عقارات، ومصطلح العقار يشمل بناية قيد التحديث في مانهاتن، وبلداناً مثل فلسطين وكوبا وبورتوريكو.
الدولة الواحدة ليست فكرة سيئة على أية حال، ولكنها لا يمكن أن تقوم على أساس سوى بالدخول في الصراع الحقيقي من أجل المستقبل، وهو صراع يتجاوز الأرض الفلسطينية، ويتطلب العمل على تنمية حقيقية وإعادة تقديم الأوراق للتاريخ بالنسبة لأمة عربية كاملة، كانت اسرائيل موجهة لتبديد أي فرصة أمامها لتكون منافساً حضارياً للغرب، ويتطلب نضالاً إنسانياً كاملاً لتحقيق عالم أكثر عدالة ويثبت النزعة الأخلاقية في ممارسته، وهذه متطلبات غير متوفرة.
النهضة الأوروبية قامت على أساس الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح الذي قوض السيطرة المملوكية على المتوسط، وحول الاحتياطات من الذهب والفضة إلى أوروبا، بعد أن كانت كل بضاعة عليها أن تدفع الرسوم والمكوس لدولة مملوكية عسكرية قوية تسيطر على مصر والشام، أي المناطق التي يجري عندها تفريغ البضاعة، وحتى بعد قيام الدولة العثمانية، نتذكر أن الولايات المتحدة كانت تدفع رسوماً سنوية (جزية) لتأمين ملاحتها في البحر المتوسط وذلك منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى سنة 1812، ووجود دولة إسرائيل كان الحجر الذي ضرب عصفورين في وقت واحد، ضرب أي مشروع استعادة حضارية لمشروع عربي في شرق المتوسط وجنوبه، والتخفف من عبء المسألة اليهودية في أوروبا.
هنا، يجب التفصيل قليلاً في الاستخدام لوصف العربي – الإسرائيلي في الصراع، فالصراع ليس فلسطينياً – إسرائيلياً على أية حال، بمعنى أنه لم يكن المستهدف هو ايجاد وطن قومي لليهود لأن أرضاً كبيرة عرضت على اليهود في روسيا الشاسعة، ولأن الأصل أن يبقى اليهود بوصفهم مواطنين في بولندا وألمانيا والمجر، ولذلك، ففلسطين كانت جزءاً من مشروع يستهدف ما هو عربي بالضرورة، ولأن المشكلة ليست عربية – يهودية، فالتاريخ وضع العرب واليهود (المساكين) في نفس الصف المرة بعد الأخرى، ويمكن أن تتأمل في مدن مثل نابلس والخليل لتجد عشرات الأمثلة على عائلات طردت من الأندلس وهربت من محاكم التفتيش ودخلت في النسيج الفلسطيني الذي هو بطبيعته (عربي – إسلامي) كما كان إدوارد سعيد يمازح جلسائه واصفاً نفسه بالمسلم الشرفي، ولكن كثيراً من العائلات تحولت إلى مسلمة حقيقة، لأنها أصبحت على أرضية شراكة أخلاقية وإنتاجية مع المحيط الأوسع.
لا يخفى على القارئ، أن الأمر مرتبط بالحديث الذي تكلم به الوزير السابق، مروان المعشر، والاستدلالات الخاطئة التي دفعها في حديثه حول الدولة الواحدة، مستدعياً تجارب سويسرا وبلجيكا، وهي دول متعددة العرقيات والمذاهب الدينية واللغات، ولكن هذه الدول نشأت ضمن منطقة جياشة بالصراعات كانت تخوضها شعوب تعيش على أرضها منذ أجيال طويلة، وكانت نشأة الدولة تعبيراً عن تآلف إرادات هذه الشعوب، وهو ما ينتفي عملياً في حالة فلسطين المحتلة، حيث يوجد شعب يتصل تواجده لعديد من الأجيال، على نفس الأرض، وفي نفس القرية، الكاتب نفسه، من الجيل الثامن الذي عاش في قرية واحدة، وكان قبلها في أطراف أخرى من الأرض التاريخية لبلدان الشام، ربما في فلسطين أو الأردن أو سوريا، وذلك ليس مهماً، لأنه في المقابل، يخوض صراعاً يومياً، مادياً ونفسياً، مع شخص افتراضي لم تبدأ علاقته مع فلسطين إلا لمائة عام، أو ثلاثة أجيال على الأكثر، وعلى أرضية مثل هذه لا يمكن تحقيق المصافحة الافتراضية التي يجب أن تقوم على أساسها الدولة الواحدة.
الفلسطينيون والأردنيون في مواجهة كبيرة لأن بقية الشعوب العربية وجدت أن تحمليهم المشكلة يمكن أن تجعلها تنصرف لمشروعاتها الخاصة، وهذه المواجهة غير عادلة وغير منطقية، والمشكلة الأعمق كثيراً، أن الشعبين (الشعب الواحد قبل ذلك)، لم يتركا يوماً خارج لعبة المصالح والأدهى (الأهواء) العربية مطلقاً من قبل، والحل الجميل والشاعري الذي يتحدث عن الدولة الواحدة يتجاهل تفاصيل كثيرة، ولا يراعي الحد الأدنى من قسمة الغرماء المتوجبة، ولا يضع في اعتباره أن المستقبل لا يستوعب أصلاً فكرة شعب ترفضه الأرض والمناخ واللغة (تأمل الأدب العبري الذي أنتج في اسرائيل لترى أن فلسطين كانت أرض القيظ والذباب، وأن المهاجرين اليهود كانوا محبطين عندما لم يجدوا فيها أنهار الحليب والعسل)، لا يستوعبها إلا في حالة التداخل العضوي الذي كان يضم يهود الدولة العربية سابقاً، بوصفهم أداة لإثراء المجتمعات وشريكاً حقيقياً في بنائها.
أما مسألة الفصل العنصري، فتوجد مشكلة كبيرة، فهي يجب أن تبقى أحد أدوات الصراع، لا أن تكون ولا بأية حال، الاختزال الكامل للصراع، فالفلسطينيون ليسوا هنوداً حمراً، أو عبيداً ألقتهم السفن لمزارع القصب في الكاريبي، وكل ما حدث كان جرائم هي الأخرى لم تصل إلى تسوية نهائية وعادلة، ويمكن التأمل في أن العالم ما زال يردد بدهية مثل Black Lives Matter ، وهذه الجرائم متصلة أيضاً بالحالة الفلسطينية التي هي جزء من تاريخها، ولكنها ليست كل القضية الفلسطينية.