استراتيجية إسرائيل لذر الرماد في عيون العالم
د. فراس الجحاوشة
10-04-2023 01:37 PM
يستوقفني مشهدٌ في مسلسل التغريبة الفلسطينية للممثل السوري تيم حسن، الذي أدى شخصية الأستاذ المثقف المناضل ’علي الشيخ يونس’، الذي دخل على طلبته الجالسين في غرفتهم الصفية، أذكرُ شكل تلك الغرفة جيداً، فهي عبارة عن حجارة وطين متكدسة فوق بعضها بأبعاد سميكة وغير متسقة، وبسقف مائل تتقاطع فيه عوارض الخشب وحزم القش.
دخل الأستاذ على طلبته وجلس على الكرسي وطأطأ رأسه من التعب، لمحه أحد الطلبة وقال له: نروّح أستاذ؟. تجهّم علي وقام منتفضاً محمر الوجه، وقال بصوت حازم: وين نروّح؟ في عنا دروس! والسبت امتحان حساب، والأحد امتحان تاريخ، والاثنين امتحان محفوظات! وإلي بغيب رح يعيد السنة كلها!.
استوقفني هذا المشهد في ذلك المخيم الذي يبدو بلا مستقبل أو أفق غير التهجير والضنك، ولم أعرف لماذا انتفض الأستاذ الفلسطيني إلا بعد أن تأملت فيه كثيراً! لقد انتفض لأنه يعرف أن هذا الجيل الذي يُدّرسه سيكبر غدا وأنه لن يغير شيئا من واقعه ما دام سيعيش غارقا في الأحداث والتفاصيل اليومية دون أن يمتلك سلاح الجلد على التعلم والتثقف والفهم إلى جانب سلاحه الناري، وعليه أن يعرف كيف يحل تقاطعات ’عوارض الخشب وحزم القش’ التي تقع فوق رأسه.
في هذين اليومين شاهدنا التطورات في جنوب لبنان، حيث انطلقت عشرات الصورايخ تجاه إسرائيل، ثم حصل تراشق صاروخي محدود مع قطاع غزة، للوهلة الأولى قد يُظن أن المقاومة في لبنان هي من بادرت لقصف إسرائيل، لكن الصحيح أن المتابع للمجريات في المنطقة لا بد أن يعرف قواعد اللعبة الإسرائيلية، والورقة السحرية التي تخرجها كلما اشتد الخناق عليها.
والورقة السحرية هي تصدير الأزمات، فإسرائيل تتقن استخدام الضغط الأقصى على الفلسطينيين والمسلمين والمسيحيين وكل عربي يؤمن بالقضية، كلما أحست بخطورة التحديات والانشقاقات الداخلية العميقة.
فالذي شهدناه في الأسابيع الاخيرة من تصدع خطير في إسرائيل، وخروج مئات الآلاف إلى الشوارع، شكّل مشهدا غير مسبوق، وصل إلى حدٍ حذر فيه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ من حرب أهلية، فقد تمكّن اليمين المتطرف من السيطرة على السلطة، وكشف علنا عن وجهه الذي لا يؤمن بلغة السلام أو السياسية أو التعايش، بل يؤمن بلغة العنف والإقصاء والحرب على الجميع، حتى ضد أبناء جلدته.
انكشف التدهور شيئا فشيئا، فرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يبحث عن حصانة ضد محاكمته، وحلفاؤه من أقصى اليمين يبحثون عن بسط مفهومهم الديني المتطرف على كل بشرٍ وشبر من الأرض والحجر والشجر، ووقع الخلاف مع وزير الامن وسلاح الجو، واضطربت الشرطة والجيش، واستعر الجميع ولاحت الحرب الأهلية في الأفق، أما أمريكا والمجتمع الغربي حامي إسرائيل وممولها بالمال والسلاح، فلم يجد طرفا عربيا يلومه أو يحمله مسؤولية ما يحدث، بل وجدت أمريكا نفسها أمام اتهامات إسرائيلية بأنها تمول الاحتجاجات هناك، فدبّ الخلاف العلني ودخلت العلاقات في نفق معتم.
ما الحل في هذه الحالة الجنونية؟ وكيف يمكن الخروج من هذا الوضع؟ وإعادة توحيد الصفوف؟
الحل يكمن كما جرت العادة، بتشديد الخناق على الفلسطيني والعربي، وإعادة فتح الجبهات المشتعلة، فتنكرت إسرائيل للاتفاقيات الأمنية والسياسية التي لم يجف حبرها بعد في مدينة العقبة ومدينة شرم الشيخ، وسارعت إلى قصف سوريا بوتيرة شديدة لضرب ما سموها أهدافا إيرانية وعناصر تابعة لحزب الله، وبدأت بالتنكيل بالمصلين في المسجد الأقصى والمساس بمشاعر المسلمين، وتسيير قوافل المستوطنين المتطرفين إلى المسجد الأقصى، أملا بالهروب إلى الأمام واستثارة أي طرف في أي مكان، وافتعال حروب صغيرة محدودة، توّحد جبهتهم الداخلية وتصرف النظر عن نظام نتنياهو المتهلهل.
اشتعل الحريق كما أرادات إسرائيل، وانطلقت عشرات الصواريخ كما رأينا من جنوب لبنان، لكن المضحك أن حكومة نتنياهو وفور أن حصلت على دعم المعارضة في الداخل، والدعم الغربي من الخارج، وأعادت البروباغندا التي أرادتها إلى الواجهة، سارعت إلى إطفاء الحريق بقصف قطاع غزة، وأتلفت بعد تمهل طويل بضعة أراضي زراعية في جنوب لبنان، وانتهى التصعيد.
ومن متابعتي الدائمة، أرى أنه صار واضحا أن الغطاء الوحيد الذي تمتلكه إسرائيل هو النيران التي تواصل إشعالها من حولها وتقديم نفسها للعالم على أنها ضحية تحتاج الحماية، لأنه كلما هدأت الساحات، يزول الرماد الذي يذر في العيون تصدعاتها الداخلية وأوهام السلام أو حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، بل وتتكشف أحلامها بابتلاع حدود الدول العربية.