الإمامُ الشافعيّ .. منارةُ عِلْمٍ وشموخُ عالِم
د.محمد عبدالجبار الزبن
04-04-2023 05:50 PM
إنّ صياغة التاريخ ترتكز على سرد أحداث وسِيَرِ الشخصيات المهمّة، التي صنعت المواقف المفصلية في حياة أمة أو حضارة ما، فقدمت للإنسانية النافع لها، وأحيانا ما يضرّ بها، وبالتالي فإنّ التاريخ لا يرحم أولئك الذين وضعوا المآسي في طريق تلك الأمم، فيوزنون بميزان لا يستقيم ولا يدوم معه مدح أو ذمٍّ، إلا إذا كان المدح أو الذمّ على حقيقته.
والمؤرخون يحاولون التزام المصداقية في سرد التاريخ، بكشف الزيف، وإحقاق الحقّ، لأنّهم يخدمون مهنتهم وما أقيمت لأجله، ولكن.. أحيانا يظهر مَن يحاول تزييف الحقائق، وتشويه صورة نقية لشخصية أو أمة ما، لحساب أغراضٍ وأهواء قد لا يبديها.
ومثاله: حينما يتناول أحدهم سيرة إمام عظيم من أئمة الإسلام، دون الرجوع إلى المصادر الصحيحة ولا التدقيق على مشاهد تسيء إلى هذا الإمام أو ذاك. وهو ما حصل لسيرة الإمام الشافعيّ، مؤخّرًا.
ونال الإمام الشافعيّ الثناء حتى بلغَ عنانَ السماء، ومن يحاول رميَ السحاب بالحجارة، تؤوب عليه بالخيبة والمذمّة، وقد قالها صاحب سيَر أعلام النبلاء عن الإمام الشافعيّ: (وَنَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُ غَضّاً، فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ رِفْعَةً وَجَلاَلَةً). فالإمام الشافعيّ منارة عِلم اهتدى بنورها الأجيال، وعاش بشموخ العلماء والنبلاء.
ويلزمنا اليوم بما للإمام من حقّ علينا أن نسرد شيئا من سيرته، لتتعلم الأجيالُ قيمةَ تاريخها، وكي يلتزمَ الحقَّ والصوابَ من أراد تناولَ سيرة الأفذاذ، التي منذ نشأته يظهر عليه النبوغ، ويسطر المؤرخون حياة المؤثرين، فنقول وبالله نستعين:
إنّ الأمهات العظيمات لا يقفن على باب العجز والخمول، بل يَشرَعن في إيقاد مَنجَم الهِمّة، ويواصلن السير في درب المعاناة، حتى الوصول إلى ذروة النجوم، وهنّ يصنعن من أبنائهنّ رجالا عظماء، وهنّ بذلك يقدّمنَ للإنسانية أعظم خدمة، وممن اللاتي يذكرهنّ التاريخ: (فاطمة بنت عبدالله الأزدية)، التي أنجبت شمسَ الحكمة، وبحرَ العلم، أعني: محمد بن إدريس الشافعيّ الهاشميّ القرشيّ، الذي تتفتّح الأذهان منذ الصغر جيلا بعد جيل، وهي تسمع اسمَ الشافعيّ، في مصافّ عظماء أمة الإسلام.
فها هي الأيّامُ تتوالى مسرعاتٍ، ومنتصفُ القرن الثاني الهِجري يبدأ بعام جديد، ينبثق عن ميلاد أحد النجباء، وتزدان غزّةُ هاشم جنوبيّ فلسطين، وهي تستقبل القرشيَّ الذي ولد فيها، ثمّ.. لم يلبث أنْ غادر والدُه الدنيا بعد عامين من ميلاده، فغادرت أمُّه إلى مكة المكرمة، لينشأ اليتيمُ بين أقربائه في مكة، وفي كنفِ والدته، التي واجهت التحديات في تربيته، قال الشافعي: (كنتُ يتيمًا في حجر أمي فدفعتني في الكتَّاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلمَ، فكان المعلمُ قد رضي مني أن أخلفه إذا قام).
ويأبى الغلام، إلا الصبر على لأواء طلب العِلم.. فلم يلبث مليًّا حتى بزغت شمسُ العلوم من جنباته، فحفظ القرآن الكريم في السابعة من عمره، ثمّ اتجه إلى تعلّم الفقه والحديث النبويّ الشريف، فتعلم على يديْ الإمامين: مسلم بن خالد مفتي مكة، وسفيان بن عيينة إمام الحرم المكيّ، فلمّا انتهى من تلك المرحلة، توجه صوبَ إمام المدينة المنورة، حيث الإمام مالك وقرأ عليه الموطأ، وارتحل إلى اليمن، وبرز نجمُه في بغداد متعلما وعالما، ثمّ مجتهدًا وصاحب مذهب فقهيّ، ثم ارتحل إلى مصر وأسَّس مدرسةً فقهية قلّ أن يكون لها نظير.
وهو أحد المجتهدين الكبار، والذي أصّل أصول الفقه، وشيئا من أصول علوم الحديث الشريف، فقد كان محرابًا للقرَّاء، ومنبرًا للفصحاء، وقرطاسًا للمحدثين، ونبراسًا للأدباء، والمؤصّل للفقهاء، وقانونا لأهل القضاء، وموجهًا لأهل الإفتاء... إنه الإمام الشافعيّ يا قومِ!!.
وَقد صَنَّفَ في سيرته ومناقبه الكِبَارَ، كداود بن علي الظاهريّ، وزكريا الساجي، وابن أبي حاتم، فَهَلَّا قرأنا سيرته العطرة!!. لنتعلم منها كيف نجعل من حياتنا مِشعل نور تستنير به دروبٌ وربوعُ.
وهنا.. إذا أراد أحدهم أن يصنع مادة إعلامية لشخصية فذّة كالإمام الشافعيّ، فليرجع إلى أهل العلم في ديار الإسلام، لا أنْ يَرتَجلَ الأمر على عواهنه، ويسوق إلى السوق كلّ دغَل، ويخرج منه لا كمن دخَل، فالأمر جدّ وليس بالهَزَل، فكلنا محاسبون على القول والعمل.
agaweed1966@gmail.com