تعتبر المكتبات بأنواعها العامة والخاصة المصدر الرئيس للثقافة والعلم للحضارات الانسانية جميعها بما فيها حضارتنا العربية عبر مختلف العصور، وبالرغم من التطور التكنولوجي المعاصر والتحول الرقمي الهائل، الا أن المكتبات تبقى بما توفره من معلومات ووثائق ومناخ فكري الملجأ الذي يأوي اليه كل مثقف وكاتب ومفكر، ومن التحديات الخطيرة التي تواجه ثقافة المكتبات والنشر الحروب والكوارث، فعلى سبيل المثال تراجعت أعمال وأنشطة المكتبات ودور النشر في سوريا بسبب الحرب الدائرة فيها، مما دمر البنية التحتية وهدد الكثير من المؤسسات الثقافية بالاغلاق ونقل الكثير منها الى الخارج في ظل الحصار والصعوبات الاقتصادية، وتراجع مسألة شراء الكتب عند أفراد المجتمع لتصبح رفاهية لا اساسية كما كانت في الأصل.

ومن المكتبات الخاصة التي تساهم في الحفاظ على تاريخ سوريا وعمقها العربي والاسلامي والعالمي بما تحتويه من صفحات تاريخية عريقة، المكتبة أو المنصة الالكترونية الارشيفية للمرحوم الدكتور ناظم القدسي رئيس الجمهورية السورية ما بين عام 1961-1963م، وتتجلى أهميتها بما تحتويه من وثائق تبلغ حوالي 5 الاف وثيقة، متنوعة في موضوعاتها ومجالاتها، حيث تمّ تبويبها على عناوين تشمل الصور والوثائق والرسائل ومحاضر مجلس النواب السوري ومقاطع فيديو تاريخية، وتعالج هذه العناوين بمجملها الفترة التاريخية من بداية القرن التاسع عشر وحتى تسعينيات القرن العشرين، وتتنوع الوثائق فيما تحتويه من معلومات سياسية واقتصادية واجتماعية اضافة الى اضائتها على العلاقات السورية الدولية، ومطالعة سريعة لمحتويات هذا الكنز الارشيفي، يمكن استخلاص بعض الأمور منها فطنة القدسي في كتابة مسودات دوّن عليها أسماء مقترحة لتولي الحقائب الوزارية، كذلك ملاحظات عامة حول الاتجاهات السياسية لأعضاء مجلس النواب السوري، واسماء وجهاء المدن والقرى والبادية السورية، كما يمكن أن نلمح الدقة في المواعيد المقررة للمقابلات التي يجريها في مكتب الرئاسة، إذ تحدد فيها الشخصيىة ومدة المقابلة، وملاحظات شخصية كتبها القدسي بغية مناقشتها مع مجلس الوزراء حول الاصلاحات السياسية والاقتصادية، وفي إطار الفكر القومي عند القدسي، وهو بلا شك فكر عريق له تمثلات وتطبيقات عديدة في سيرته، يظهر للقارىء عند تصفح الوثائق وجود مسودة مقدمة من قبله إلى جامعة الدول العربية في اجتماعها عام 1951م، مقترحاً على الاعضاء مشروع الاتحاد العربي الفيدرالي الذي هدف به وحسب نص الوثيقة " مجابهة الخطر الصهيوني، واحاطته بسور دفاعي من الشرق والشمال والجنوب".

وحول ما جاء في مكتبة القدسي عن العائلة الهاشمية التي تربطه بها علاقة وثيقة، خاصة خلال اقامته في العاصمة الاردنية عمّان، فقد ضمت مكتبته مجموعة صور منها ما يوثق لزيارة المغفور له الملك فيصل الثاني ملك العراق إلى دمشق عام 1950 وأخرى عام 1957م، وزيارة المغفور له الملك الحسين بن طلال ملك المملكة الاردنية الهاشمية إلى سوريا عام 1956م، اضافة إلى مجموعة من برقيات التهنئة بالأعياد والمناسبات الدينية والوطنية مرسلة من جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال وصاحب السمو الملكي الامير الحسن بن طلال حفظه الله.

إن ما يميز مكتبة القدسي المكانة السياسية التي شغلها صاحبها وطبيعة الوثائق الرسمية المتوفرة فيها، وهي عوامل تزيد من ثقتنا تجاه محتوياتها، واللافت أن توثيق الأحداث جاء بالكلمة والصورة والصوت أحياناً عبر مقاطع الفيديو، كما نجد فيها تقارير واخبار صحفية تتعلق بمنطقتنا العربية وتأثرها بالاحداث العالمية، ويمكن للمهتم بالطوابع البريدية أن يطالع اصدارات الطوابع السورية وشروح عنها.

ويمكن القول بأن مكتبة القدسي باتت تشكل اليوم نموذجاً للمكتبات العربية الأسرية أو الشخصية، التي يتم اطلاقها عبر الفضاء الالكتروني لتصبح بحق منصة ثقافية عامة، يستطيع القارىء والمهتم التعامل مع حوسبتها بسهولة، خاصة هذه الأجيال التي يغلب عليها امتلاك المهارة التكنولوجية التي يجب توجيهها نحو التعلم من خلال المواقع والمنصات الثقافية الموثوقة، والتي تساهم في زيادة وعيهم التاريخي الوطني والقومي، وتوفر لهم مادة اكاديمية رديفة لما يتلقون من مناهج، وهي أمور تحتاج من المعنيين السعي للاستفادة من هذه المكتبة وربطها مع الجامعات والمراكز البحثية، وانا على يقين بأن اسرة المرحوم الدكتور ناظم القدسي التي اقامت هذه المنصة مشكورة بجهدها الخاص ستكون متعاونة في هذا الاتجاه الثقافي التعاوني.

عبد الله توفيق كنعان
أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس