كان لي الشرف قبل أيام أن أزور مدينة القدس الشريف، الأمر الذي يشكّل حلمًا كبيرًا للملايين من البشر. وطبعًا ليست المرة الأولى، ذلك أنّني قد درست في المعهد الإكليريكي في بيت جالا بين الأعوام 1984 إلى 1995، ومن ذلك الحين أعود إلى هنالك عدّة مرات سنويًّا.
السحر الموجود في القدس فريد، ولا يضاهيه أي سحر، فلمجرّد دخولك المدينة المقدّسة تشعر بالقدسيّة، وأنّك تطأ على تراب مقدّس شهد العديد من التدخلات الربانية في حياة البشر. ولما كانت هذه الفترة كلّها أعياد، لليهود والمسيحيين والمسلمين، فإنّك تجد حركة كبيرة للحجّاج، وتجد الحافلات في كل مكان، وتشعر في القدس الشرقيّة بالاحترام الكبير للصوم الرمضاني، فالمطاعم التي اعتدنا على رائحة المأكولات فيها خلال النهار مغلقة احترامًا لشهر الصوم. أمّا كنيسة القيامة فتغصُّ–والحمد لله–بالزوار والحجّاج والمصلين من كل الجنسيات واللغ?ت والأصول. يكفي أن ترى الخط الطويل من الناس ممتدًا على مدار النهار، يحوط بالقبر الفارغ، إحاطة السوار بالمعصم، ويعج بالترانيم والصلوات وإضاءة الشموع.
وفي يوم الشعانين، حين كانت قوافل المؤمنين تذهب بالدورة الاحتفاليّة، وبمشاركة جيّدة هذا العام من المؤمنين القادمين من المدن الفلسطينية الشقيقة، والكشاف العربي الذي ملأ الأجواء بمعزوفاته وترانيمه الشرقيّة والغربيّة في داخل القدس العربيّة، قال البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، في نهاية التطواف السنوي، ما يشجّع أبناء القدس على عدم اليأس، بالرغم من المضايقات التي حصلت وتحصل في الآونة الأخيرة تجاه المقدسات والكنائس: «يجب ألا نخاف من الذين يريدون الانقسام، ومن أولئك الذين يريدون إبعادنا أو الاستيلاء على روح هذه المدينة المقدّسة. لن ينجحوا، لأنّ المدينة المقدّسة كانت دائمًا وستظل دائمًا بيتًا للصلاة لجميع الشعوب، ولن يتمكّن أحد من امتلاكها حصريًّا»، مؤكدًا بقوله: «نحن ننتمي إلى هذه المدينة، ولا يمكن لأحد أن يفصلنا عن حبّنا لها، تمامًا كما لا يمكن لأحد أن يفصلنا عن محبّة المسيح».
وفي الجهة المقابلة للنهر، وفي ذات الوقت، في عمّان النابضة بالحبّ للقدس والمقدّسات، كان الملك عبدالله الثاني يستضيف أبناء القدس، من مسيحيين ومسلمين، مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على مأدبة إفطار ملكيّ، وفيه قال جلالته: «نحن معكم للأبد وستنتصرون على كل التحدّيات التي أمامكم». وجدّد جلالته الالتزام بالوصاية الهاشميّة، مشدّدًا على ضرورة وقف تهجير المسيحيين المقدسيين، وكذلك وقف الهجمات المتكرّرة على الكنائس ورهبانها وممتلكاتها بالقدس. كذلك، تحدّث خلال الإفطار رؤساء الكنائس، واستذكر ممثّل البطريرك بيتسابالا المطران وليم شوملي خطاب الملك في الأمم المتحدّة أيلول الماضي، الذي أكد فيه أهميّة الحفاظ على الوضع القائم بالقدس، ودافع فيه عن الحقوق والتراث الأصيل للمسيحيين في الشرق، ولا سيّما بمدينة القدس.
ختامًا، لا تفريط بالقدس، بل أنّ حبّ هذه المدينة يكبر في نفوس الملايين يومًا بعد يوم، وشعانين بعد شعانين. ولا أنسى وجه السيّدة الثمانينية ديانا صافية، شقيقة المفكر والسفير الفلسطيني عفيف صافية، التي زرتها في دير ومستشفى الراهبات في أبوديس، وهي تطلّ على مشهد القدس الرائعة من فوق جبل الزيتون، وتتحدّث من خلف أنبوبة الأكسجين التي تساعدها على التنفس: «كان بإمكاني الذهاب إلى مستشفيات أخرى، لكنّني ابنة القدس، وأحبّ القدس، ولن أتخلى عنها». ويحق لها أن ندعوها بالناطقة باسم المقدسيين الذين يكنّون الحب، كما نشاركهم إياه، للمدينة المقدّسة.
وكل عام وأبناء القدس والجميع بخير.
(الراي)