الطريق إلى "الجماعات العلمية" العربية
د. محمد أبو رمان
03-04-2023 11:14 AM
في ختام الدورة السابعة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية (عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في منتصف شهر مارس/آذار الماضي)، قدّم عبد الوهاب الأفندي (في حفل توزيع الجواز على الأبحاث الفائزة) خطاباً على درجة عالية من الأهمية، متحدثاً عن المهمات التي يقوم بها المركز العربي بالتعاون مع معهد الدوحة للدراسات العليا، في عملية متكاملة من أجل تكوين "جماعات علمية" عربية، في سبيل تطوير مجالات البحث العلمي والأكاديمي.
وللأمانة، من يتابع أنشطة المركز العربي وما يقوم به من جهود بحثية ومعرفية لن تكون لديه شكوك بحجم الفراغ الذي ملأه المركز. وإشارة الأفندي إلى التكامل بين عمل المركز ودور معهد الدوحة في بناء "جماعة علمية" عربية مهمة في التعريف بضرورة الانتقال في العمل الأكاديمي والبحثي من إطار الفردية والعشوائية وضحالة "الإنتاج النظري" إلى ما يعزّز دور المعرفة العلمية في التعامل مع المشكلات والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
غنيٌ عن القول إنّ أغلب الإنتاج المعرفي - الأكاديمي في العلوم الاجتماعية هو في الغرب، حتى في ما يتعلق بقضايا العالم الثالث ومشكلاته، ومنه العالم العربي، فيما لا تقدّم آلاف الجامعات العربية مساهماتٍ ملموسة واضحة ونوعية في مجال التنظير في العلوم الاجتماعية، وذلك لأنّ مفهوم "الجماعات العلمية" يكاد يكون شبه غائب عن الأوساط الأكاديمية والبحثية العربية.
عند النظر في التطورات في النظريات الاجتماعية، منذ القرن التاسع عشر، نجد أنّها (التطورات) كانت محصلة لجهود جماعات وحلقات بحثية (سيمنارات) تضم باحثين وأكاديميين عديدين، ومحصلة لنقاشات وحوارات واختلافات بين هذه الجماعات، بينما نرى أنّ أغلب الجامعات العربية ما تزال في العلوم الاجتماعية عالةً على النظريات الغربية. وأغلب الكتب الأكاديمية التي تدرّس للطلاب العرب هي اجترار وتكرار وتلخيصات وترجمات لما ينشر هناك، بينما تغيب الأدوار المطلوبة للمجلات العلمية المحكّمة في أن تكون وسيلةً فعّالةً لتطوير الأبحاث والدراسات العربية في هذه المجالات.
قد يكون العراق شهد في مراحل سابقة بعض "الأنوية" لمثل هذه الجماعات العلمية، وكذلك الأمر نجد حالة أكثر تقدّماً في جامعة القاهرة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مع وجود نخبة من الأكاديميين المرموقين، مثل حامد ربيع وعبد الملك عودة وعلي الدين هلال وكمال المنوفي. ويكفي أن ننظر إلى إنتاج حامد ربيع، المعرفي والفكري، كي نلمس نموذجاً مختلفاً في الأوساط الأكاديمية والمعرفية العربية، يمتاز بالأصالة والعمق والتأطير والتنظير المميّز، ما أدى إلى ولادة مدرسة مرتبطة بربيع في مجال العلوم السياسية، لكن للآسف ما تزال أغلب "الكرّاسات" التي كتبها في النظرية السياسية والتحليل السياسية لم تنشر (في حدود معرفتي)، ولم يتم البناء بصورة واضحة على ما قدّمه الرجل، تدويناً وتحليلاً من تلاميذه الذين أصبحوا أساتذة في العلوم السياسية.
كانت هنالك محاولات أخرى لتكوين جماعات علمية، أبرزها مركز دراسات الوحدة العربية، الذي اتخذ من الفكر القومي - العروبي إطاراً أيديولوجياً له، وأنتج آلاف الدراسات والكتب المهمة في المجال العلمي والمعرفي، كما عكف على عقد المؤتمرات السنوية والندوات المتخصّصة. والحال كذلك بالنسبة للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي قام على فكرة "أسلمة المعرفة"، ومهمة ردم الفجوة الفكرية والعلمية بين الغرب والشرق الإسلامي، لكن ما يؤخذ على جهود المعهد أنّها لم تشتبك مع الواقع السياسي والاجتماعي وبدت كتاباتٌ كثيرة فيه وكأنّها منفصلة عنه.
لا يمكن أن ننكر التدهور الذي حدث في جامعات عربية كثيرة، مع تراجع مستوى الأساتذة والطلاب والتدريس، ما يجعل من أي توقّع أن تتحول الجامعات العربية إلى جماعاتٍ علميةٍ في إنتاج المعرفة وتطويرها وردم الفجوة بين المعرفة والمشكلات أمراً غير واقعي... لكن من الممكن، في المقابل، أن تنهض بعض الشبكات من الباحثين والخبراء العرب والجامعات والمراكز العلمية، لتضع هذه المهمة (تشكيل الجماعات العلمية والبحثية) العربية نصب أعينها، لأنّها الوسيلة الرئيسية لعملية متكاملة تعاونية حوارية في سبيل تطوير المعرفة النظرية التي تمثل المفتاح الرئيس للاقتراب من المشكلات والقضايا الاجتماعية والسياسية.
العربي الجديد