لسنا بصدد سرد تاريخي لنشأة البيروقراطية ومراحل تطورها وصولا الى نسختها الحالية المطبقة في العديد من المؤسسات الرسمية وبعض منظمات القطاع الخاص في عالمنا العربي، بل الهدف هو تسليط الضوء على الاثار المرتبة على تطبيق النسخة الباهتة منها، وتكلفة الفرصة الضائعة والمحتملة.
فلا يختلف اثنان ان البيروقراطية هي واحدة من النماذج التنظيمية التي تركز على الأداء الجيد وتعزز الانضباط والتنظيم في المنظمات الى حد ما، وتتميز بالتركيز الشديد على الإجراءات المكتبية، والرتابة في الحركة والزمن، والامتثال الكامل للقواعد والتعليمات الصارمة، بهدف نهائي مفترض هو تحقيق الفعالية من خلال التحكم في العملية الإدارية برمتها، لكن ذلك يوحي أيضا بوجود قبضة حديدية ناعمة تتحكم في مفاصل العمل الإداري باتجاه المركزية التي تتتشابك فيها الأدوار وتتداخل فيها المهمات الى حد الافراط والتفريط، الافراط في الإجراءات والخطوات، على حساب التفريط في المكاسب الممكنة.
بمعنى آخر التركيز على الإجراءات والخطوات واهمال النتائج المرجوة، حتى أصبحت الإجراءات عقيدة إدارية متطرفة، يحرص فيها العاملون ورؤسائهم على تطبيقها حرفيا دون وعي بعواقبها السلبية ان جاز التعبير، وهنا تكمن المخاطر الحقيقية للبيروقراطية بنسختها الباهتة التي ترفض القراءة ما بين السطور، وتتمسك بحرفية النص وتتنصل من مضمونه على منهج قوله تعالى " وجدنا ابائنا لها عابدين"، انسداد كامل للافق، وانحسار شامل للمنطق.
ان تطبيق البيروقراطية الزائدة أحيانا التي لا داع لبعض إجراءاتها وخطواتها هي بمثابة ضياع حقيقي لكفاءة الموارد وحسن استخدامها، وتؤدي دوما الى كلف إضافية يمكن تجنبها، وخسارة فرص يمكن اقتناصها.
والتساؤل المهم هنا كيف يمكن مساءلة المتسببين في زيادة الكلف وضياع الفرص، وكيف سيتم تقييم منهيتهم وقدرتهم على التفكير الاستراتيجي؟ ، نجزم ان أداء هؤلاء سيكون كأداء الاحصنة في حلبات السباق التي توضع على اعينها غمامات Blinders كي لا ترى سوى ما يفترض ان تراه، ويحجب عنها مخاطر المضمار، فلا تفزع ولا ترفس، ولا تتشتت.
لسنا ضد تنظيم الاعمال ومهنية الوظائف بقدر انكارنا ان تبقى محصورة في مجموعة وئاثق ومستندات، وبضع اختام وتوقيعات، نحن ضد (مهنية الأوراق) فقط جملة وتفصيلا على حساب تحقيق الأهداف الحقيقية للمنظمات.
ثبت عمليا ان البيروقراطية بنسختها الباهتة وصورتها القاتمة لا تحقق مكاسب على المدى الطويل، بل على العكس تماما خسائر مضمونة النتائج، لاثارها السلبية على أمور عدة أهمها:
البيروقراطية الزائدة تؤسس لانطباعات سيئة على سمعة المنظمات في بيئتها الداخلية والخارجية، فيشقى العامل ولا يرضى العميل، كما اثبت دراسات عدة ان السمعة المنظمية تتحقق بريادة ادائها، وينعكس ذلك حتما على الأرباح والحصة السوقية في القطاع الخاص، وعلى رضا المراجعين ومتلقي الخدمات في المؤسسات الرسمية.
البيروقراطية بنسختها الباهتة تقضي على المرونة المنظمية، والرشاقة المؤسسية، فلا تتكيف مع المتغيرات، ولا تتعاطى مع المستجدات، فتبقى حبيسة الروتين معزولة، ومعادية للحداثة، باتجاه الانقراض الديناصوري بدون شك.
البيروقراطية الباهتة لا تستجيب للاحداث بشكل طبيعي وفي الوقت المناسب، وقد يطول اتخاذ القرارات الحاسمة والضرورية فيها، وقد تتولد احداثا جديدة عند اتخاذ قراراتها استجابة لاحداث قديمة.
البيروقراطية الباهتة ربما تقتل الابداع والابتكار والتفكير خارج الصندوق، وتقف حاجزا ضد مشاركة المعرفة بكفاءة، فتضيع الخبرات والمعارف برحيل أصحابها، وتفتقر فيها صناعة القرار للمعلومات اللازمة والصحيحة.
لكن من جانب اخر بالغ الأهمية، فان التطبيق الجيد والمتزن للبيروقراطية لا ينفر الاستثمار او على الأقل لا يشكل عائقا امامه، فاحيانا تؤدي مركزية التحكم واتخاذ القرار الى التحيز والتمييز لصالح جهة دون أخرى، فتضيع الفرص الحقيقية، ونعود لمربع بناء الثقة من جديد.
هذه هي بعض تبعات تطبيق البيروقراطية بنسختها الباهتة التي تم حصرها بشكل موجز، ولا يمكن مواجهة اثارها السلبية دون ديمومة التوازن والتحديث والتطوير، وان يكون ذلك نمط حياة إداري تنظيمي جماعي، شعاره تلقائية التحديث ووجوب التنفيذ.