نعم للمعارضة الوطنية الراشدة ..
د.زهير أبو فارس
01-04-2023 06:00 PM
نعم ، تمر بلادنا في مرحلة حساسة ودقيقة تتميز في تهديدات إقليمية ذات طابع وجودي من قبل اليمين العنصري الصهيوني القومي التوراتي واخطار أخرى تعصف بالاقليم والعالم تنعكس تداعياتها سلبا على اوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى، فقد ترافق هذا الواقع (وهذا طبيعي) مع بروز خلافات في الرؤى والمواقف بين أطراف من المعارضة الوطنية والحكومات حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها ، وصلت في بعض الأحيان إلى حالة من التوتر والاستعصاء، مما يستوجب مناقشة ذلك بهدوء ، بعيدا عن التشنج والتشكيك والانكار. فالتاريخ يعلمنا ان الدول والأمم كثيرا ما تواجه التحديات ، بل والاخطار التي قد تهدد وجودها، لكن الشعوب الحية منها هي الاقدر دائما على تجاوز ما يواجهها بحكمة قادتها ونخبها السياسية السياسية والفكرية، وبخاصة عندما تستشعر ان الوطن في خطر . وهذا ما جرى في بلادنا في مراحل عديدة خلال مئويته الأولى.
ولو عدنا بذاكرتنا الشعبية إلى أكثر المراحل خطورة في تاريخ الدولة الاردنية الحديث، وتحديدا قبل ستة او سبعة عقود مضت ،والتي كان لها أسبابها الموضوعية الإقليمية والدولية ، والحرب الباردة بين المعسكرين الراسمالي والاشتراكي-احد اهم تجلياتها ، واصطفاف طرفي المعادلة في بلادنا (المعارضة والحكومات) في الخندقين المتصارعين..
لوجدنا ان المعارضة، والتي دفعت ثمنا نتيجة خلافاتها العميقة مع النظام السياسي بقيت وفية لمصالح شعبها ووطنها، وعادت لتمارس دورها في المجتمع ، وذلك بعد المصالحة التاريخية إثر أحداث عام ١٩٨٩، وما تلاها من خطوات حكيمة اقدم عليها النظام السياسي تمثلت بالانفتاح على المعارضة والقوى السياسية والحوار المجتمعي الذي تمخض عن تجديد العقد الإجتماعي بصدور الميثاق الوطني ،وعودة الحياة الديموقراطية، وإلغاء قوانين الدفاع والأحكام العرفية،وسن العديد من القوانين التي استهدفت تنمية الحياة السياسية وتعزيز المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار(قوانين الاحزاب والانتخاب-نموذج)، والتي توجت بانتخابات برلمانية شفافة عادلة ونزيهة نالت قبول الناس وادت إلى انفراج مجتمعي وتحسين ملموس في العلاقة بين المعارضة والنظام السياسي، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة والمخاطر الخارجية التي واجهت المملكة اقليميا ودوليا.
كما نجا بلدنا بحكمة قيادته وشعبه وقواه الحية، بكافة اطيافها السياسية والاجتماعية والفكرية ، من التحديات الهائلة التي واجهته خلال العقدين الماضيين بسبب الحروب الإقليمية، وما تبعها من موجات ما سمي بالربيع العربي التي عصفت بالعديد من الدول العربية الشقيقة، والتي لا يزال البعض منها يعاني من حالة الانقسام والصراع وما رافقها من دماء والام ومعاناة.
وأصبحت التجربة الاردنية في الإصلاح السياسي المتدرج ،المنطلق من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية ، والبعيد عن المغامرة والقفزات غير المدروسة انموذجا يشار له في الحكمة والواقعية السياسية ، التي عكست وحدة ارادة الشعب والقيادة السياسية في الإصلاح، من منطلق ان الدخول بالدولة إلى مئويتها الثانية يحتاج بالضرورة إلى التحديث الجذري لمختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
لقد أكدت الأوراق النقاشية والخطابات والحوارات الملكية قناعة الملك وايمانه العميق بأهمية وضرورات الإصلاح، بما يمثله من ثورة ملكية بيضاء في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية، بهدف توسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار ، وتفجير الطاقات الكامنة الهائلة لدى مجتمعنا ،وبخاصة الشباب منه، وصولا إلى الحكومات البرلمانية، من خلال حياة حزبية حقيقية وفاعلة. فصناديق الاقتراع ، وتداول السلطة تمثل الوسيلة المقبولة والنهج المجرب المؤدية إلى الاستقرار وترسيخ السلم المجتمعي، كحالة ضرورية للتنمية والازدهار. وتجربة الديموقراطيات العريقة نماذج حقيقية على ما نزعم، حيث غيرت صناديق الاقتراع قواعد اللعبة السياسية ونقلت هذه الدول من حالات الصدام والصراعات الدامية الى الاستقرار والسلم المجتمعي والتنمية.
وأخيرا، فإن مشكلتنا ليست مع المعارضة التقليدية التي تملك الحكمة والرؤى والبرامج والمواقف تجاه مختلف قضايا الشعب والأمة، وبقيت وفية لنهجها العقلاني تجاه الوطن والنظام السياسي الذي لم يكن يوما اقصائيا او انعزاليا او تناحريا في إدارته للعلاقة مع شعبه وقواه السياسية ومكوناته الاجتماعية ، حتى في أصعب الظروف وأكثرها خطورة وتعقيدا.
لكن الإشكالية مع اؤلئك الذين يعارضون لاسبابهم الخاصة، أو مدفوعين من جهات لها مصلحة في اضعاف الاردن وزعزعة استقراره وهي لا تملك الرؤى والبرامج، حيث يمارسون التشكيك ونشر الإشاعات، والأخبار الملفقة، والأحداث المفتعلة، وبث السموم والاساءات لرموز المجتمع والدولة ،من أجل إشاعة البلبلة وعدم اليقين ، واضعاف ثقة الناس بمؤسساتهم ودولتهم،من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
ان مثل هذه الممارسات الخبيثة التي تحاول استغلال الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها بلدنا ،لا تنطلي على مجتمعنا وشبابنا الواعي الذي يميز بين السم والدسم وبين الغث والسمين، وهي قطعا لا تمت إلى المعارضة بمفهومها الوطني، بل وتشكل جرائم يعاقب عليها القانون.في المقابل، فإن المعارضة الحقيقية مطلوبة وضرورة وطنية، وتعكس حيوية المجتمع وقوة النظام السياسي، والتي سيتعمق دورها في مرحلة الحياة السياسية القادمة.
اما الصنف الآخر ، فهو ما يسمى بالمعارضة الجديدة ، او معارضة النخب، وهي ظاهرة اردنية بامتياز ، وتتمثل في"طبقة"من الشخصيات السياسية والاجتماعية، الذين ارتبط مجدهم ونفوذهم بالدولة ونظامها السياسي، ثم ما لبثوا ان انقلبوا، واخذوا يمارسون المعارضة باشكالها المختلفة، من خلال صالوناتهم او مناطق نفوذهم الاجتماعي، أو بدرجات اقل، من خلال صمتهم وسكوتهم على حملات التشكيك والنميمة التي يمارسها بعض العدميين ضد الدولة ورموزها، ولسان حالهم يقول:"فخار يكسر بعضه"
و"خليهم يخلعوا شوكهم بايديهم".فهم-على ما يبدو- من فئة "الحردانين "بعد خروجهم من "السيستم "، وبعد فقدانهم امتيازات لطالما عاشوا في رغدها، ولا يرغبون في التخلي عنها وعن الجاه الذي رافقها . ومما يؤسف له ان كل ذلك يجري والوطن يتعرض لمخاطر وجودية ويحتاج معها إلى تضافر كافة الجهود لمواجهتها والوصول ببلدنا إلى بر الأمان.
ونختم بالقول بأن النظام السياسي قد حسم أمره بخصوص الاردن الحديث في عالم متغير لا مكان فيه للضعفاء ،باتجاه لا رجعة عنه، نحو الديموقراطية الحقيقية ، والمشاركة الشعبية في الحياة السياسية، وصولا إلى الحكومات البرلمانية وتداول السلطة، وهي الميدان الصحيح للأحزاب والقوى والتيارات السياسية والاجتماعية للتنافس وطرح الرؤى والأفكار والبرامج ، والشعب وحده سيكون صاحب القرار في اختيار من يمثله في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحجب الثقة عنهم في حال تقصيرهم. وعلى هذه المبادئ الراسخة والمتفق عليها فليتنافس المتنافسون!
*عضو مجلس الاعيان