مهما اختلفت المفاهيم التي تشرح وتفسر معاني الإرادة، يبقى محور التعريف يحوم حول التحكم في النفس، بحيث يسهل منعها أو منحها ما ترغب، وقد قدمت النظريات في علم السلوك والانسان، الكثير من الأدوات التي تساعد في تحقيق هذه الغاية، ولعل من أسباب عدم تحقيق التحكم الفعال في النفس، يعود الى عدم قدرتنا على مقاومة العادة، ذلك الروتين الذي الفناه وعشنا على تكراره سنوات وسنوات.
وبالنظر الى احد زوايا وخصوصيات شهر رمضان المبارك، انه يقدم لنا نموذجا فريدا واداة شديدة الفعالية في كبح جماح هذا الاندفاع المتهور نحو الملذات، فبعد 11 شهرا من الانفلات الشهواني في تناول الطعام والشراب من جهة، وعدم انتظام السيطرة الحقيقة على تقسيم أوقات اليوم والليلة، والاهتمام بقيمة الزمن ومراقبته اركانه، نجد ان هذه الفسحة الزمنية المكونة من 30 يوما، تعد فرصة ذهبية سانحة وسهلة وممكنة لإعادة ضبط هذا الإيقاع.
وحيث أن أغلبنا لا يقاوم او حتى يفكر ان تمضي ساعات الصباح، دون تناول اكسير النشاط فنجان القهوة الساحر، او ببعض الاطباق الخفيفة اللذيذة من وجبة الفطور او الغداء، ناهيك عن عادة التدخين التي تشكل المعضلة الأساسية للمدخنين في رمضان، وقد تمنعهم أحيانا من الصيام، إضافة الى بعض الجوانب المعيشية التي تنسينا قيمة الوقت وتقسيمه وادارته، نجد ان هذه العبادة الاصيلة والركن العظيم من اركان ديننا الحنيف جاءت لتقدم لنا الحل الأمثل لإدارة الإرادة.
ولعل ما يميز هذا التحكم الفريد بالإرادة وجعلها ممكنة بل وسهلة التنفيذ أحيانا، انها تأتي بشكل مفاجئ، فحين يدخل الشهر، تنقلب الحياة ومفاصلها جذريا، وبعد ساعات من اعلان بداية الشهر، يصبح كل ما اعتدناه عليه ممنوعا منعا مؤقتا، وبشكل سلسل ومتقبل، وكأننا دخلنا في مرحلة التسليم المطلق، متقبلين لهذا المنع دون نقاش او جدال، بل وعن اقتناع بان هذا المنع فيه من الخير ما فيه.
ومع مرور أيام الشهر الفضيل، تبدأ النفس حوارها التقليدي، يتخلله بعض العتب واللوم، وطرح السؤال الأبرز، وهو عن كيفية قدرتنا على ضبط إيقاع حياتنا بهذه السهولة، رغم ضعفنا في باقي أيام السنة، ولماذا كان لهذا الشهر تلك السلطة الحازمة في اجبارنا على التحكم العفوي في إرادة المنع لما تشتهيه النفس؟!
ورغم ان الصيام عبادة دينية، الا ان معانيها المادية وأهدافها المعيشية والسلوكية لا تقل أهمية عن تحصيل الثواب والاجر، ونعلم جميعا عن تلك الدراسات الكبيرة والمتعددة ومن مختلف الثقافات، التي بينت فوائد الصيام على اخلاف انواعه، ليس صحيا فقط، وانما على مستوى تنظيم حياة الفرد شكلا ومضمونا.
علينا ان نسعى جميعا، بان لا نفوت هذه الفرصة، وأن نعيد برمجة الإدارة وتنميتها وتعزيزها في انفسنا، حتى نخرج منتصرين على ملذات النفس وتقصيرها في إدارة شؤونها، ويكون هذا الشهر نقطة تحول أساسية في جعل حياتنا كلها رمضان.