يحضرني قبل الولوج مثل شامي يقول " ما أشبه السفينة بالملاّح" لاستنجد به محاولا ايقاظ دهشة وذهول ان وجدا لدى من يهمه الامر فأتساءل : كيف يمكن فكفكة ترسانة صدئة لاعلام رسمي بهُتت وحان رحيلُ مفاتيحها وبراغيها و"شد الوصل" من مفاصلها؟!. أقصد موظفين يمسكون بتلابيب اللعبة ويوجهونها أنّى شاءت سفنهم.
هؤلاء الذين يجيدون لغة ومنطقا صاغتهما العقود والروتين والسياقات الوظيفية الباهتة للتيئيس من المضي في أي توجه تحديثي مهني ليتراجع المسؤول مرددا مزاعمهم أن ليس هناك صف ثان ينهض بحمل المسؤولية، وأن القائم هو المهنية مجسدة، وفي ذلك نجاح لقوى الشد العكسي ما بعده نجاح. لذلك كله يتحنط هؤلاء الموظفون وتتحنّط المؤسسات معهم، فبهم تمضي ودونهم تموت أو توشك!.
هؤلاء الموظفون هم العقل الباطن لقوى الكبح المجاهرة برؤاها دون مواربة او زيف في حال فريدة تشي بتناقض جوهري مع المأمول المُعبّر عنه بلسان صاحب الشأن. تناقض يصل حد مواجهة التحديث وكبح محاولات الانتقال الى الصحافة المهنية الممتلئة عنفوانا ومشهدية والمتنوعة والنابذة للتسحيج والحريصة على اضاءة الفضاءات كلها في المشهد الوطني يمينا ويسارا ووسطا واكاد أُضيف المعاداة.
ولمزيد من التدليل ألحٌّ بلهجة البدو: هذا "شليلي" فاعطوني خبرا مهنيا نتج عن هذه المؤسسات، ولنحتكم الى مفهوم المهنية السائد في الصحافة الغربية التي "نحب" فنختار تجربة الصحافة الفرنسية او البريطانية وحتى الاميركية على انحيازها السافر لعدوانية دولتها.
إن صحافياً لا يقرأ ولا يطلع ولا يعرف أبعد من أرنبة أنفهِ لا يمكن ان يكون مبدعاً، تلك حقيقة ولكن الاكثر مرارةً ان يبقى هذا الصحافي أسير سياقٍ يرعى جهله ويعززه فيصير مع السنوات محنطاً كنتاج موضوعي لظرف ينتج المزيد من هؤلاء الأشباه.
إن صحافياً يقول حرفاً "هيك بدو المدير" لا يمكن ان يكون مهنياً ومؤتمناً . ان مديراً يأمر ان يكون ما يسمى خبراً في هذه المواصفة او تلك لا يمكن ان يدعي الحرص على الصحافة فهو دعي ليس الا . لانه يتلقى الامر من مسؤول أعلى يخشى غضبه الذي قد ينهي حياته الوظيفية برمشة عين او في تنسيب بنقل او اقلها غضب كامن يستجلب الشرور لا محالة. في هذا الجو يعمل الصحافيون. جو يديرك فيه طيف أنت لا تراه، بيد انك ترى عرفيته واوامريته النزقة عادة. لذلك كله أنضم شخصياً الى الجوقة وأُردد معهم: نعم يأمرُ معاليه فيطاع.
ولانّ الشيء بالشيء يُذكر يقول زميل صار تندره دارجاً على الالسن: أين ما قال لك صاحب الحمار اربطه فاربطه بلا تردد. نعم انهم الاصحاب والموجهون والذائدون عن الحِمى فسمعاً وطاعةً.
عبر عقود صاغ الاعلام الرسمي في مؤسساته معادلة تجمع بين الروتين البليد وصحافة الديماغوجيا القديمة او الحزب الواحد او ما اجتهد زميل في تسميته (صحافة الدحية او الهجيني او التدخل السريع) التي تثابر على الاجتهاد في الدفاع عن نفسها وخطابها، مطوعة التقنية لخدمة مآربهاً.
فخطاب التحديث والتعدد ملفق ومفتعل ما يفضي بدوره إلى قراءة تلفيقية موجهة إيديولوجياً بدورها، وفي ذلك يكون هذا الاعلام كمن يعيد إنتاج أزمته فيستلذ بها ويتلذذ، متمسكاً بخطابه المسكون رعبا خشية اقتحام جَسور لمساحات التحديث والعصرنة التي لن يبلغها الا بادوات مهنية شجاعة عمادها الرئيس ورافعتها الحقيقية صحافيون اكفياء مشهود لهم بالنزاهة والمعرفة المهنية الجريئة.
وفي خضم اللغو عن التحديث يصنع الاعلام الرسمي وطواحينه الفتاكة سجنا يرهن نفسه فيه، في مفارقة تؤكد ان هذا الاعلام لا يواجه التحدي بقبوله او بمنطق متماسك، فضلاً عن انه لم يختبر المنطلق الجوهري في التحدي وسؤاله المركزي : هل هو المسؤول عن تخلفه، أم أن الوضع السياسي هو المسؤول عن هذا الوضع المأساوي.
يدرك الاعلام الرسمي انه يهاجم منتقديه لانه ضعيف مكابر مستخدماً قوالب بعيدة عن الواقع المعاين، فلا يستطيع تفكيك ادواة هذا الواقع ليكون قادرا على حمل رسالة الدولة واهدافها المعلنة، فيربط ما يعتقد انه منطق صائب ليس بحق الناس بالاختيار والحرية او الصحافة المهنية وانما بالحكومة وسلطة الدولة ورموزها، حتى غدا الوزير المعني مصدر المعرفة والبوصلة. والاعلام بذا يذهب نحو مزيد من مركزة مصيره وقياده.
ان المطلوب هو كسر سلطة النص الرسمي بحلته القديمة وان ينتهي سياق الراي الواحد والسحجة، والالتفات الى النور الساطع في الارجاء وتفعيل جيش الصامتين والمنفيين داخل هذه المؤسسات، في حين ما يزال طيف وزارة الاعلام مسيطرا ومتجليا، فتمضي وسائل الاعلام الرسمية في دورها أدوات لدعاية لا علاقة تربطها باعلام مهني. فهو اعلام يلتهم اموال دافعي الضرائب في مهمته بث صورة احادية الجانب تغيب النقد للاوضاع العامة في مؤسسات الدولة، اعلام ينشغل في التطبيل والتزمير برغم سيطرة الفضائيات ووكالات الانباء الدولية وتحليقها العالي في فضاءات الخبر الصحافي تطويرا.
ينزلق الاعلام الرسمي في متاهة خطاب تعبوي مضامينه ضحلة، مضفيا غمامة من هالة الكلام المعمم على انشائه السقيم، ما يستدعي قرارا سياسيا لالحاق هذا الاعلام بالعصر في بلد يقول انه ولج الالفية الثالثة مسلحا باجندات حقوق الانسان والتحديث . في بلد لا يمكن ان يلج التطوير والديمقراطية فيما حال اعلامه تستحضر روح المثل الشامي إيّاه.