رنا الصباغ
بعد فشل الإدارة الأمريكية في انتزاع موافقة إسرائيلية على تمديد تجميد جزئي للاستيطان لمدة ثلاثة أشهر مقابل سلة محفزات سياسية وأمنية سخية, يطل الأردن على مشهد إقليمي مرعب عام 2011 قد تنتظره حروب مبرمجة أو مواجهات بالوكالة مرشحة للتمدد خارج إطارها الثنائي راشقة حممها على الجميع.
فالمملكة تقف شبه وحيدة هذه الأيام في عين العاصفة القادمة بجبهة داخلية هشة, عنف مجتمعي متنام ووضع اقتصادي صعب. وبدلا من التركيز على استدامة سراب عملية سلام بات لزاما على المملكة منح الأولوية لترتيب البيت الداخلي ومواجهة استهداف إسرائيل لأمنها واستقرارها, حسبما يتجلى بتسارع وتيرة الأصوات التي تتحدث عن الخيار الأردني المرفوض.
فرهان الدبلوماسية الأردنية, حال دول "الاعتدال العربي" والسلطة الوطنية الفلسطينية, على الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مواجهة الإملاءات الإسرائيلية المتصلة بملف عملية السلام فشل فشلا ذريعا. ويزيد من قتامة المشهد تآكل شرعية الرئيس الفلسطيني محمود عباس وانكماش الدور المحوري السعودي والمصري في ملف السلام لصالح إيران, تركيا, وإسرائيل. كما أن مبادرة السلام العربية باتت جزءا من أرشيف التاريخ.
كابوس يطارد الأردن الرسمي بعد اندثار الحلم الزاهي الذي أشاعه أوباما حول صنع السلام بعد أن رفع منسوب أمل بعض القادة وليس الشعوب العربية, حين أعطى الأولوية لملف الصراع العربي-الإسرائيلي مباشرة بعد دخوله البيت الأبيض معلنا أن السلام في الشرق الأوسط مصلحة قومية أمريكية.
الآن بات واضحا أن إدارته أفلست. وهي تتلقى الصفعات المتتالية داخليا وخارجيا وتكاد لا تملك الوقت للملمة صفوفها والتقدم بسياسات واستراتيجيات مدروسة. وبعد انتهاء مهلة الشهور السبعة القادمة, ستبدأ الإدارة العرجاء بصب جهدها على الانتخابات الرئاسية القادمة بعد أن خسر الحزب الديمقراطي انتخابات الكونغرس النصفية لمصلحة الجمهوريين.
تدرك عمّان الآن أنه ما باليد حيلة, وتعرف أن بيروت باتت مرشحة مسرحا لأحد هذه الحروب الإقليمية أو أكثر. الملك عبد الله كان حذرا من ذلك الخيار قبل شهور.
تعرف أيضا أنها لن تكتفي برفع يديها وإعلان الاستسلام أمام سياسات حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو الرامية لفرض الأمر الواقع من خلال تسريع الاستيطان وتهويد القدس الشرقية ضاربة بعرض الحائط امن المملكة القومي ومعاهدة السلام (1994) على وقع تنامي تيار المعارضة الداخلي لخيار التسوية.
في المحصلة يتجه ساسة للشعور بأن المملكة باتت اليوم ضمن حلقة الاستهداف الإسرائيلي, لكن رغم تدمير ما تبقى من فرص السلام يرى ساسة أن "الحركة بركة" حتى في غياب أفق التسوية العادل. وفي توقف الحركة انتحار سياسي سريع لبلد لطالما ارتبط أمنه واستقراره ومستقبل هويته السياسية بحل الصراع العربي - الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية مستقلة غرب النهر.
يبدو أن عمان ستوكل أمرها للجنة المتابعة العربية التي تجتمع في القاهرة يوم الخميس, بحسب مسؤولي الجامعة العربية بعد وصول المبعوث الأمريكي للسلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل واجتماعه بالرئيس محمود عباس. ميتشل سيبلغ عباس بالأفكار الأمريكية الجديدة جدا, على منوال مسرحية "كاسك يا وطن". سيصر المبعوث "النزيه" على أن واشنطن ما تزال متمسكة بعملية السلام وبعدم شرعية الاستيطان وبضرورة إنهاء الاحتلال, وسيعيد التأكيد للمرة المليون التزام واشنطن بتوقيع اتفاق إطار للسلام خلال عام, في المقابل ستتهمه إسرائيل بالانحياز وتتوقع إزاحته عن مهمته.
وكالعادة ستخرج اللجنة العربية على الأرجح ببيان سياسي غامض يستخدم لغة دبلوماسية مطاطية قابلة للتفسير والتأويل حسبما برع العرب في مختلف الاجتماعات المفصلية لدى التعامل مع وعود واشنطن وعروضها, وقد تدرس اللجنة آلية مناسبة لمطالبة الإدارة الأمريكية بالاعتراف بدولة فلسطينية داخل حدود حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية, وضرورة استئناف محادثات السلام العربية-الإسرائيلية على جميع المسارات من حيث توقفت. بالتأكيد ستأخذ اللجنة الإشارة من الرئيس عباس, الذي بدأ يلوح علنا بخيار حل السلطة الوطنية الفلسطينية أو اللجوء إلى مجلس الأمن والجمعية العامة واللجنة الرباعية الدولية. ومن بين مطالبته إنشاء وصاية دولية على الأراضي الفلسطينية وإلزام إسرائيل بتسلم مسؤولياتها مجددا كقوة احتلال أو رفع قضية أمام محكمة العدل الدولية ضد الأمم المتحدة أو ضد بريطانيا (دولة الانتداب في فلسطين) أو جميع أعضاء الأمم المتحدة بسبب التقصير في تنفيذ الالتزامات القانونية الملزمة تجاه الشعب الفلسطيني.
فهناك اقتراحات متدرجة حسب دراسة حملت الرقم (4) تحت عنوان "انسداد المحادثات المباشرة - والخيارات" التي أعدتها السلطة الوطنية الفلسطينية لمجلس فتح "الثوري" ونشرتها صحيفة الحياة اللندنية يوم الجمعة. الخيار الذي ترتضيه القيادة الفلسطينية سيكون مقبولا للعرب.
تشرح الدراسة التي كتب مقدمتها صائب عريقات, رئيس دائرة شؤون المفاوضات, ما حدث منذ تموز/ يوليو الماضي من جهود فلسطينية وأمريكية وعربية لتحريك ملف السلام. وتعرض الخيارات الفلسطينية في حال فشل مساعي أمريكا لإقناع إسرائيل بتمديد تجميد الاستيطان لثلاثة أشهر أخرى.
بالنسبة للسلطة يكون المخرج الأمثل هو الفرض على إسرائيل تحمل مسؤولياتها كافة على الأراضي المحتلة وتحديد وضعها القانوني, في حال واصلت أنشطتها الاستيطانية ورفضت الولايات المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين داخل حدود ,1967 كما ورفض مجلس الأمن قبول فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة, ورفضت إسرائيل إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل أيلول/ سبتمبر 2000 أو فكرة الوصاية الدولية ولم تقبل الدول المتعاقدة فكرة الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وفقا لميثاق جنيف لعام .1949 الجواب, بحسب الدراسة, هو في تحديد "الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة (..) فالبديل في أيدينا, ولا جواب سوى انه لا بد من تغيير الوضع القائم علما أن إستراتيجية إسرائيل هي الإبقاء على الوضع الراهن".
هذه المعادلة تعني أن اليهود سيفقدون الأكثرية في دولة إسرائيل ثنائية القومية.
عربيا, سنعيش لنسمع جعجعة ولا نرى طحنا. ذلك إلا إذا حدثت معجزة إلهية وتقبل العرب عجز أمريكا واقروا بانبطاحها أمام إسرائيل وقرروا التعاطي مع أمريكا بطريقة جدية وبلغة المصالح من حيث التلويح باستحضار سلاح قطع النفط ووقف التعاون الأمني والعسكري لمكافحة الإرهاب و"الأعداء المشتركين". وقد يقرر العرب مطالبات من أطراف الرباعية الدولية ضمن برامج زمنية لتقوم بمهامها نحو إنشاء الدولة الفلسطينية وتنفيذ تعهداتها, لأن البديل هو توجه عربي صوب إجراءات أحادية الجانب.
فالقادة العرب تلقوا صفعة تلو الأخرى منذ قمة الدوحة عام ,2008 التي طالبت إدارة أوباما بالانخراط المباشر لصنع سلام شامل وعادل على جميع الجبهات بما فيه قيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش بجوار إسرائيل, خلال عامين بعد الاتفاق على الحدود ووقف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
انتظر القادة وما زالوا ينتظرون خطة أمريكية واضحة المعالم لفرض تسوية على الطرفين بعد أن "اسودت وجوههم" أمام شعوبهم في ضوء انصباب الجهد الأمريكي على وقف الاستيطان غير القانوني أصلا على حساب قضايا الحل النهائي الأساسية وإنهاء الاحتلال. خلال العامين الماضيين, برعت واشنطن في ابتكار صيغ هلامية للمحادثات بما فيها مفاوضات بالإنابة لتسهيل الطريق أمام استئناف المفاوضات المباشرة, لكنها فشلت في تقريب وجهات النظر حيال أمور جوهرية, بينما تواصل إسرائيل خطط الاستيطان رغم أنف أمريكا وإغراءاتها.
خلال العامين الماضيين لم نر سوى تسابقا في التأقلم العربي مع تنزيل سقوف المطالب السياسية المشروعة وفشل الإدارة الأوبامية في أربع محطات أساسية وفي قضايا فرعية كوقف الاستيطان. ورغم وعود وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الأخيرة, فإن هذه الإدارة ستفشل في اجتراح أية حلول تحافظ على شرعية القيادة الفلسطينية وماء وجه دول "الاعتدال العربي" الملتزمة بخيار "التفاوض = حياة".
يبدو من الأفضل لمحور الاعتدال المتفكك الذي آثر أن يفقد كل أوراقه مقابل الحلم بسلام بعيد المنال, وللرئيس عباس ولدول الممانعة التركيز على جهد حقيقي يفضي إلى مصالحة وطنية فلسطينية بعد تقييم المرحلة منذ انطلاق قطار التفاوض عام 1991 انتهاء بالنفق المسدود الذي وصلنا إليه.
فالمشروع الصهيوني تجاوز مرحلة فلسطين وبدأ بالتمدد في بعده الإقليمي. والمخطط الأوسع تعدّى حل الدولتين صوب نشوء دويلات في المنطقة تذوب فيها الهوية الفلسطينية وبعض الهويات الأخرى.
إذاً, الجميع أمام مشهد متفجر لن يسلم احد من تداعياته, وقد يفتح الباب أمام اندلاع صراع وحروب فرعية في المنطقة ربما تندلع من الجبهة اللبنانية قيد التسخين وتمتد لاحقا إلى سائر دول المنطقة, الراقدة فوق صفيح ساخن وتحذيرات للغرب "إمام قادة مستبدين أو إسلام تكفيري".0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)