في نهايات العقد السادس من القرن الماضي وتحديدا في العام 1968 قبضت الشرطة الأميركية على أربعة من افراد المافيا في جناية أمنية وأودعتهم السجن، تواصل على الفور افراد العصابة مع قادتهم لإخراجهم فخرج ثلاثة منهم وتأخرت دفع كفالة الرابع ويدعى (باربوزا)، وما ان غادر الثلاثة عتبات مبنى السجن حتى وصل خبر تصفيتهم من قبل رئيس العصابة، هنا أدرك رابعهم (باربوزا) حتمية نهايته لحظة خروجه خلف رفاقه لحظة دفع كفالته، وبدأ الرجل المحاصر كفأر أحكمت المصيدة فكيها عليه بالبحث عن مخرج من هذا الموقف البائس، فبدأ بالتفكير الجدي بكسر حاجز الصمت الرهيب الذي يحكم عالم المافيا الذي ينتمي اليه، ولكن المقابل الذي يريده من الشرطة اكبر من الحفاظ على حياته وحده، فقانون المافيا الصارم ينص على حق العصابة بتصفية عائلة العضو الذي يفشي اسرار التنظيم، إذن المطلوب حماية أسرة (باربوزا) معه في حال قرر تقديم شهادته ضد (باترياركا) زعيم العصابة، وهنا تحديدا وبعد الموافقة على طلب الشاهد من قبل الشرطة الفيدرالية ظهرت فكرة حماية الشهود لأول مرة ضمن نصوص القانون في العالم.
وبالفعل وعلى مدار عامين وفرت الشرطة الحماية اللازمة لأسرة الرجل ونجحت الفكرة في اختراق التنظيمات الاجرامية السرية.
هذا العمل الكبير مهّد لمأسسة العملية فبعد انتهاء المحاكمة ظهرت معضلة ثانية وهي استدامة توفير الأمن للشاهد وما مدى المخاطر من ذكر اسم الشهود ومحل اقامتهم في محاضر الجلسات فتم العمل في مطلع السبعينيات بتطوير قانون شامل ومتكامل يمنح الشهود أسماء وهويات مختلفة مع ضمان العمل وتوفير السكن في مناطق مختلفة وغير معلنة وبعيدة عن المتابعة.
وفي التجربة الأردنية نجد مخاضا قانونيا متواترا دفع لتطوير منظومة حماية متقدمة وترتقي لمستوى المعركة التي تخوضها هيئة مكافحة الفساد، حيث تم تعديل قانون الهيئة لينص بشكل صريح وواضح على مفهوم حماية الشهود بكل مستوياته حيث نصت المادة (23) من قانون الهيئة: «توفير الحماية اللازمة للمبلغين والشهود والمخبرين والخبراء في قضايا الفساد وأقاربهم والأشخاص وثيقي الصلة بهم من أي اعتداء أو انتقام أو ترهيب محتمل من خلال توفير الحماية لهم في أماكن اقامتهم وعدم الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بهويتهم وأماكن وجودهم واستخدام تقنيات الاتصال الحديثة عند الإدلاء بأقوالهم وشهاداتهم بما يكفل سلامتهم وكذلك حمايتهم في أماكن عملهم وتحصينهم من أي تمييز أو سوء معاملة وتوفير أماكن لإيوائهم عند الضرورة، كما تشمل هذه المادة توفير الحماية للشهود وللخبراء والمخبرين وأقاربهم والأشخاص وثيقي الصلة بهم.
وتوسعت المادة في المواد (26) و (27) لتشمل حماية الشهود بفرض عقوبة على كل من يفشي أي معلومات متعلقة بهم.
ووضعت عقوبة لمن يتعرض لهم، وهنا وفي سياق النص القانوني المحكم أطلب تغليظ العقوبات المذكورة في نص المادة من سنة واحدة إلى اكثر من ذلك ورفع الغرامة المالية المفروضة.
قبل أيام أطلقت هيئة مكافحة الفساد حملة نوعية تحت عنوان (بلغ وهيئة النزاهة تحميك)، وبالاطلاع على تقارير الهيئة الأخيرة نجد أن الحملة ليست مجرد تنظير وشعارات، بل تم نقل القانون الى ارض الواقع حيث تؤكد الأرقام الموثقة أنه تم توفير الحماية للعشرات من الشهود الذين قدموا معلومات حول قضايا فساد وفق منهجية القانون المنضبط الذي تم العمل عليه بكل احتراف ومهنية وبتعاون وتنسيق مع مديرية الأمن العام.
وبالعودة لنتائج قانون حماية الشهود في أميركا سنجد أن هذا القانون المهم شجع على كشف قضايا خطيرة وجرائم قديمة تجاوز عددها 12.000 قضية، وفي الأردن وباطلاعي على التقارير الأخير للهيئة لاحظت ارتفاع أرقام المدانيين بقضايا الفساد خلال العام الماضي لما يقارب المائتي شخص وهو رقم بلا شك مرتبط بتفعيل هذا القانون المهم.
(الغد)