الحكومة، أي حكومة تقريباً بهذا العالم، تحتكر خدمات المياه والصرف الصحي والكهرباء وهي التي تقرر أثمان هذه الخدمات على المستهلك.
تأخذ الحكومة على محمل الجد قدرات المستهلك ولذلك ببلادنا تدخلت فحملت عن المستهلك نسبةً من هذه الأثمان تسميها دعماً، و الدعم يستفيد منه كل مستهلك بسيطاً أو ثريَّ الحال، مواطناً وغير مواطن، وهذه خدماتٌ لا تستطيع غير حكومة القيام بأعبائها مع وجود معادلة في بعض البلدان مثلما عندنا بين قطاعٍ خاص و الحكومة لتوزيع الجهود، لكن المصدرَ الأساسي يبقى هو الحكومة التي بالقانون تملك موارد المياه، وبنية خدمات الصرف الصحي، والبنية الهيكلية الضخمة اللازمة للتوليد الكهربائي ونقلهِ للتوزيع.
لكن الإحتكار للسلعة من هذه الأنواع وغيرها لا يعني رفع الأثمان من دون تصورٍ للاستهلاك لأن محتكر السلعة أو معظم بدائلها يريدُ بيعها لا كسادها فيوازن ما بين الكلفة عليه والتي سيبيع بها للمستهلك الراغب بهذه السلعة، والذي يستطيع الامتناع عن ابتياعها أو التفتيش عن بديلٍ لها، وللأسف أن هذا المبدأ لا يسري على الماء و الكهرباء لأغلب المستهلكين لأن اعتمادهم شبه كلي على خدماتٍ لا تملكها إلا الحكومة، و مهما قالت الحكومة عن الدعم وقيمتهِ وعن نوايا إبقاءهِ أو إلغاءهِ فإنَّ المستهلك يبقى متحسباً من خدعةٍ ما، يتفاقمُ هذا الإحساس مع يقينِ المستهلك أنه لا يملكُ بديلاً وهو يرى أنه يسدد فواتيراً تزيدُ في رأيهِ قيمتها عن المنطقي، والردُّ جاهزٌ من المصدر الحكومي من أنها خدماتٌ ذات تكاليفَ عالية في الاستدامة والإنتاج والتوزيع وأن الدعم لا يمكن لهُ أن يستمر بوجود الضغوط المالية المختلفة على الحكومة ولذلك لا بد من إعادة موازنة الأثمان والنتيجة الحتمية هي رفع الثمن على المستهلك.
حتى لو كنا نملك أنهاراً ومياهً جوفيةً و نفطاً و غازاً فإن تكلفة الإنتاج والتوزيع مرتبطةً بموارد ناضبةً مع الوقت وباستهلاكٍ يتزايد مع زيادة السكان مما يرفع الطلب عليها ويتطلب ازدياداً في الاستثمار بقطاعاتها، ونحن لسنا كذلك، كما أن الدول لا تقيس أعمارها بعشرات بل بمئات السنين و لذلك تنظر للموارد نظرةً فيها حذر إن لم نقل تقنينٌ مطلوب، وعليه بما أننا لا نملك الموارد بوفرة فإنَّ اعتمادنا هو على ما نستورد من نفطٍ و غاز وما نستطيع استخراجه أو استجلابه من مياه وما يصلنا من هبات وقروض بأنواعها لتطوير هذا وذاك من قطاعاتٍ حيوية، وكذلك على أنماط الاستهلاك الرائجة بيننا، وعلى العلاقات القائمة أو المستقبلية مع من حولنا، شقيقاً أم شقياًّ.
لنبدأ بالنقطة الأخيرة، ففي العلاقات لا يوجد كلمةَ "مجاني" فإذا أردنا نفطاً و غازاً و مياهاً ممن حولنا فالأثمان نقدية و سياسية و لا نملك إلا دفعها. قد نغضب و نقاطع ونسخط لكننا في بدايةِ اليوم و نهايتهِ نستهلك لعمل فنجان القهوة وقوداً و ماءً يصلان لبيوتنا بالعلاقات الشقيقة و الشقية! ثم النقطةَ التي قبلها، أنماط الاستهلاك. فليقلْ لنا من يستطيع الاستغناء أو الترشيد بمجتمعٍ ينشأُ على الاستهلاك و مقولة "كلما اشتهيتَ اشتريت"؟ ليس انتقاداً لكننا هكذا، نريد أن نعيشَ، و تعودنا أن نعيش بوفرةٍ، ولو نسبية بين الطبقات، لكنها وفرةً تجعلنا نتمتع بماءٍ و كهرباءٍ دون عناء أو انقطاع. من عاشَ ببلادٍ مُبتليةً بالشحِّ في الماء النظيف و الكهرباء و الوقود يعرف تمام المعرفة كيف الحياةُ تنتقل من استقرارٍ لقلق. ونحن لا نعيش هذه الظروف، و أحببتَ ذلك أم لا، فهذا بفضلِ العلاقات والهبات والقروض. إن لم تُردْ هذه فستنتقل لمعيشةٍ فيها الكثير من الصعوبات.
المواطن المستهلك يجب أن يفهم هذه المعادلات الصعبة إن أرادَ أن لا يتدهورَ نظامه الاستهلاكي. لكنه يجب أن يتلقى حزمةً من الخدمات الكًلِّية الممتازة التي تبرر له دفع أثمانٍ عالية لهذه الخدمات و اضطرارنا كدولة أن نخوض غمار علاقاتٍ ليست هي التي نريد لو كنا بموقعٍ أفضل. والحقيقة أن المواطن "مدووش" بتصريحاتٍ متضاربةٍ من الحكومة و من الخبراء خارج الحكومة، و بعضهم كان داخلها، و من تصريحاتٍ تصدرُ عن جهاتٍ مانحة. هل نملك ثرواتٍ لا نعلنها أم لا نستطيع استخراجها أم ممنوعٌ علينا استغلالها أم أنها غير موجودة؟، هل الهدر هو المسبب الرئيسي و بالتالي المحفز لقلة المعروض وارتفاع الأثمان؟، هل هو الاستهلاك الجائر؟، وقد نسطرُ عشرات الأسئلة المماثلة و كلها تحتاج لإجاباتٍ، ليست فقط مقنعة، ولكن متكررة و متسقة مع المنطق، إذاً هناك كَفَتيِّنِ. الأولى هي أن نفهمَ كمستهلكين مواطنين حقيقةً نعيشها و نتعايش معها إلى أن يأتينا الأفضل، والثانية هي أن تتكافئ التضحيات على مستوى الدولة و الحكومة و الشعب بأن تكون الخدمات الحكومية المقدمة على مستوىً عالٍ و يقدرها المستهلك المواطن، من الصعبِ مثلاً استيفاء رسوم لخدمات الصرف الصحي دون وجوده! .
لن يتوقف الاستهجان ولا الإحساس بالغبن، لكن الملاحظ أن المستهلك يناقلُ بين مصاريفه ليستمر في الاستهلاك كلما ارتفعت وتيرة الحديث عن رفع الأثمان وهذا مرَّدُهُ اعتمادهُ على سلعةً لا بديل لها، قد يلجأ للترشيد وهو مطلوبٌ في كل الأحوال غير أن حواراً واضحاً يبقى مطلوباً و حلولاً شموايةً تبقى مطلوبة و استثماراً في فهم الواقع يبقى ضرورةً، وكذلك بحثاً عن البدائل المستدامة.